الإدارة وتولي القيادة
وجود القائد على رأس أي عمل يُعد عاملا أساسيا لتنظيم الجهود وتوجيه الطاقات نحو تحقيق الأهداف المطلوبة، فكما أن السفينة تحتاج إلى ربان لتوجيهها وإيصالها بسلام إلى وجهتها رغم الأمواج العاتية والتحديات التي قد تواجهها فإن أي عمل أو مشروع أو أي مجتمع يحتاج إلى قائد يحدد الاتجاه ويضع الأهداف ويحفز الافراد، وذلك لضمان الوصول إلى الغاية المنشودة بكفاءة ونجاح، بل لا نبالغ إذا قلنا إن جزءا كبيرا من ضعف أداء المنظمات والمؤسسات والمشاريع في شتى المجالات يعود إلى غياب القيادة الفعالة أو إلى وجود قيادة غير مؤهلة لا تمتلك الرؤية أو القدرة، إذ كيف تتحقق الأهداف أو تُتخذ القرارات أو يتحسن الإنتاج او الخدمات بدون تخطيط أو بدون رؤية واضحة، ولذلك يقولون هناك فرق بين القائد الاستشرافي الذي يضع خططا لمواجهة المستقبل، والقائد التفاعلي الذي ينتظر وقوع الاحداث ثم يحاول التعامل معها، فالأول يقود مؤسسته أو مشروعه نحو النجاح المستدام بينما الثاني قد يجد نفسه دائما في موقف رد الفعل دون امتلاك رؤية واضحة، وهذا ما يميّز القادة العظماء الذين يتركون بصمة إيجابية على مؤسساتهم ومجتمعاتهم وبين القادة التقليديين الذين يقتصر دورهم على إدارة الواقع الحالي دون استشراف المستقبل أو التأثير العميق في من حولهم
ولكن على الرغم من إدراك الكثيرين لأهمية القيادة ودورها المحوري في تحقيق النجاح على المستوى الفردي أو المهني أو الاجتماعي إلا ان غالبية الافراد يعيشون حياتهم في دائرة الروتين اليومي متأثرين بالظروف المحيطة دون أن يتوقفوا للتفكير في كيفية صقل مهاراتهم القيادية أو الارتقاء بأنفسهم إلى مراتب التميز والابداع، تاركين هذه الأدوار للآخرين الأقل مستوى ومؤهل رغم امتلاكهم للمؤهلات والقدرات الذاتية التي تؤهلهم لذلك، والقليل فقط منهم من يسعون بوعي إلى تطوير أنفسهم ليصبحوا قادة مؤثرين في العمل والمجتمع، وهذا ما سوف نسلط الضوء عليه في هذه المقالة مع توضيح أهمية القيادة، والقيادة والموروث، ولماذا لا تصل القيادات إلى أهدافها؟
أهمية القيادة
في الآية الكريمة في سورة الأحزاب يقول الله تعالى ”إنّا عرضنا الأمانة على السماواتِ والأرض والجبال فأبين أن يحمِلنها وأشفقن منها وحملها الانسانُ إنه كان ظلُوما جهولا“
لقد وافق الانسانُ على حمل الأمانة العظيمة المتمثلة في المسؤوليات الأخلاقية والشرعية والقيادة الكونية بشكلها العام كما صرحت به الآية الكريمة لإنه يتمتع بالعقل والإرادة والقدرة على اتخاذ القرار، ويستطيع أن يقوم بدوره القيادي في عمارة الأرض وإصلاحها، وقد عُرف بأنه ”الظلوم الجهول“ لكونه غير معصوم، ولذلك قد يجهل أو يظلم في تعامله مع هذه المسؤولية،
فالقيادة وتحمل المسؤولية إذاً حاجه وضرورة لإن بها تتحقق الأهداف ويُحفظ النظام ويُوجّه الافراد وتنظم الطاقات والجهود في إطار خطط المنظمة نحو النجاح والانجاز، فعلى سبيل المثال في المدرسة يلعب المدير القيادي دورا أساسيا في وضع الخطة التعليمية لتوجيه المعلمين وتحفيز الطلاب مما ينعكس إيجابيا على جودة التعليم وانضباط البيئة الدراسية، وما إلى ذلك
العزوف عن تولي الأدوار القيادية
يُعد تولي المناصب القيادية في الشركات أو المؤسسات العامة أو الخاصة طموحا لكثير من الافراد ولكنه في الوقت ذاته يمثل تحديا َ صعباَ لأنه يتطلب تحمل مسؤوليات وضغوطات كبيره علاوة على المهارات القيادية كالتواصل والتفاوض والتأثير الإيجابي وما إلى ذلك، وقد تناولت العديد من الدراسات السابقة والحديثة هذه الظاهرة من زوايا مختلفة، ومن أبرز ما أشارت اليه أن القادة هم أكثر عرضة للإجهاد والقلق مقارنة بالعاملين في الأدوار غير القيادية، إضافة إلى الخوف من الفشل والمسؤولية وفقا لنظرية ”الخوف من الفشل“ وأن البعض من الافراد يتجنبون القيادة لتفادي الوقوع في الأخطاء أو مواجهة الانتقادات اللاذعة وكذلك بسبب انخفاض الثقة بالنفس رغم الكفاءة والمؤهل، وغياب الحوافز المادية والمعنوية في بعض الشركات أو المؤسسات إن لم نقل في أغلبها التي لا يرافق تولي المناصب القيادة فيها مزايا مالية أو تقدير مناسب مما يجعل القيادة عبئا إضافيا أكثر من كونها فرصة مهنية، فضلا عن تأثير المناصب القيادية على التوازن بين الحياة والعمل، حيث أنها تفرض التزاما إضافيا على الوقت المتاح للحياة الشخصية والعائلية، وكذلك لوجود التجارب السلبية السابقة للإفراد الذين جربوا أدوارا قيادية ولم يجدوا فيها تجربة مرضية بسبب الضغوط أو البيئة غير الداعمة
وما أراه من خلال تجربتي الخاصة أن العزوف عن تولي المناصب القيادية في المؤسسات الإنتاجية أو الخدمية الخاصة ليس أمرا سلبيا، بل هو نتيجة طبيعية لمعادلة غير متوازنة بين التحديات والمكافآت التي يحصل عليها القائد، رغم أن القيادة تُعد طموحا لكثير من الافراد إلا أن الواقع العملي يكشف أن الضغوط والمسؤوليات المترتبة على هذه المناصب تجعل البعض يعزفون عنها، خاصة عندما لا تكون المكافآت متناسبة مع التحديات التي يواجهونها، ولكن يمكن العمل على خلق بيئة قيادية أكثر جذبا تجعل القيادة خيارا مرغوبا لمن يمتلكون المقومات وليس فرضا بحيث يستطيع كل فرد اختيار دوره بناءَ على قدراته وتطلعاته الذاتية، مع تقليل البيروقراطية والإجراءات المعقدة التي تجعل القيادة مرهقة وغير مجزيه إضافة إلى توفير هيكلية قيادية أكثر ديناميكية بحيث لا يتحمل القائد كل شيء وحده، مع توزيع الأعباء بطريقة مرضية وعادله
بين القيادة والإدارة
يخلط الكثيرون بين مصطلحي القيادة والإدارة ويعتبرونهما وجهين لعملة واحدة، ولكن الحقيقة أن المصطلحين مختلفان تماما، فالقائد يمكن أن يكون مديرا، ولكن ليس كل مدير يصلح أن يكون قائدا، فما هو الفرق؟
القيادة: تركز على العلاقات الإنسانية وتهتم بالمستقبل وتمارس أسلوب القدوة والتدريب بينما
الإدارة: تركز على النقيض من القيادة كالتركيز على الإنجاز والأداء وعلى المعايير وحل المشكلات والاهتمام باللوائح والنظم واستعمال السلطة كما وتهتم بالنتائج الآنية مثل كم ربحنا، وكم حصلنا؟ وما إلى ذلك
والحقيقة أن كلا الامرين مهم، فالقيادة بدون إدارة تجعلنا نعيش في عالم التخطيط للمستقبل مع إهمال الإنجاز الفوري الذي نحتاج إليه كي نصل لأهدافنا المستقبلية. والإدارة وحدها تجعلنا لا نرى سوى مشاكلنا اليومية التي تستغرقنا فلا يُتاح لنا الوقت للتفكير والتخطيط للغد
بين القيادة والموروث
القيادة في أبسط تعريفاتها وأدقها هي ”التأثير في التابعين والمنظمة لتحقيق الهدف المشترك“ ومن أدوات التأثير المهمة لدى القائد التحفيز ويعني الثناء والشكر وتقدير الجهود للتابعين فهو تماما كالعطر عندما تفوح رائحته، أو أزهار الياسمين عندما تهب عليها أنسام الربيع فتنشر عبقها في الارجاء، فيبلغ الثناء والإطراء في النفس مبلغه ويجعل الاتباع يعملون بحب وإخلاص مع قائدهم، وقد أشار د. غازي القصيبي رحمه الله إلى أهمية تحفيز التابعين فقال " الدرس الإداري الكبير الذي تعلمتُه وقتها ولم أنسه حتى الآن يتعلق بترتيب الأولويات، وعليك أن تبدأ بتحفيز الآخرين عن طريق الحب والاحترام، أن تحبهم فتجعلهم يحبونك وتحترمهم فتجعلهم يحترمونك وسوف تجد كل رغباتك قد تحققت عندما يتعذر الوصول إلى الهدف، ولكن هل التحفيز وحده يكفي لجعل الشخص قائدا فعالا أم يجب أن يمتلك القائد المهارات والكفاءة والقدرة على تمكين الآخرين، وما الفرق؟
لقد علمتنا ثقافتنا وعاداتنا وتقاليدنا احترام القادة انطلاقا من احترامنا وتبجيلنا لكبارنا سناً، ولعل ذلك جعلنا نحجم عن تقييمهم أو مساءلتهم حتى وإن كانوا غير مؤهلين، ليس فقط بدافع الاحترام والتقدير ولكن ايضاً بسبب ما ترسخ في أذهاننا من رهبة تجاههم مما افسح المجال لوجود قيادات لا تستند إلى الكفاءة بقدر ما تستند إلى المكانة أو النفود
أسباب فشل القادة
لقد أشارت العديد من الدراسات إلى أن فشل القادة في تحقيق أهدافها يعود لمجموعة من العوامل الداخلية والخارجية ومن أبرزها ضعف الرؤية الاستراتيجية، ومقاومة التغيير والانفراد بالسلطة وضعف مهارات التواصل، وعدم الاستثمار في تطوير الموظفين وما إلى ذلك، ولمعالجة هذه القضايا قد يتطلب من القادة العديد من الخطوات مثل تبني استراتيجيات فعالة، وتعزيز بيئة العمل التشاركية، وتطوير وتحسين المهارات القيادية.. وغيرها
وحتى لا ننفرد في ظلم القيادة أو القادة الإداريين فإن للتابعين والمرؤوسين دوراً حاسما في إنجاح أو فشال القائد في تحقيق الأهداف، فجودة أدائه مرتبطة ومعتمدة على جودة أداء تابعيه ولذلك ينبغي اختياره على أُسس ومعايير صحيحه وواضحة ومتفق عليها، وليس على أساس عاطفي بحت منطلقة الأول ولائهم وتبجيلهم له
الخاتمة
إن الفجوة بين الإدارة وتولي القيادة تؤثر على كفاءة المؤسسات حيث يحتاج النجاح إلى قادة مُلهمين وليس مجرد مدراء منفذين، غير أن العزوف عن الأدوار القيادية إلى جانب تأثير الموروث الثقافي على اختيار القادة قد يؤدي إلى إخفاقات عديدة، لذا لابد من بيئة تحفز الكفاءات وتعتمد المعايير العادلة في الاختيار والتوازن بين الإدارة والقيادة لضمان التطور والاستدامة