ذكريات.... ليست للنسيان

فصل الشتاء له خصوصية مختلفة، فهو فصل الصمت والسكينة، فصل يقل فيه ضجيج الحياة وتخف فيه الحركة، كأن الكون كله يدخل في سكون طويل، يلتمس فيها الناس الدفء، دفء الجسد والروح، ودفء القلوب التي تتلاقى بعد طول انشغال وغياب.

رغم وجودنا تحت سقف واحد، إلا أن سرعة رتم الحياة جعلتنا ننسى معنى الدفء الحقيقي، ذاك الذي لا تصنعه التدفئة ولا البطانيات، بل تصنعه المشاعر الصادقة حين تتقارب الأرواح.

كأن حرارة المكان وحدها لم تعد تكفي، فالمشاعر تتبخر كما تتبخر غيوم الصيف حين تمطر قليلًا ثم تختفي، لا يبقى من أثرها شيء، حتى يأتي الشتاء ليعيد إلينا ما فقدناه من دفء القلوب، فنجد أنفسنا مجتمعين من جديد تحت سقف واحد، كأننا في بيات شتوي جميل نحتمي فيه من البرد، ومن قسوة الأيام في الخارج.

ومن أصدق الذكريات التي تسكن أعماقنا في ليالي الشتاء الباردة، تلك الصورة الدافئة حول مدفأة الفحم ”المنقلة“.

في ليالي البرد القارس، كانت الأسرة تجتمع حولها، تمتد الأيدي نحو الجمر بحثًا عن الدفء، وتلتف القلوب حول بعضها كأنها تحتمي من صقيع الغياب.

كنا نشوي الكستناء على الجمر، ونحتسي كأس الشاي الذي يطهى على الحطب، فتفوح رائحته بالدفء والحياة.

كانت الحكايات تروى في تلك اللحظات، والضحكات تملأ المكان، لتمنح تلك الليالي مذاقًا خاصًا لا ينسى، مذاقًا يشبه الطفولة، يشبه الحنين، يشبه معنى البيت بكل تفاصيله.

ما أجملها من ليالٍ، وما أعمق دفئها، ففي كل جمرٍ متقد، كانت ذاكرة تشتعل، وفي كل فنجان شاي تفور ذكريات من زمنٍ طيب.

هكذا هو الشتاء، رغم برودته، يوقظ فينا أجمل ما دفنته الأيام من مشاعر، ويعلمنا أن الدفء الحقيقي لا ينبع من النار، بل من قلوبٍ تجتمع رغم المسافات.