تسطيح المفاهيم قشمرة فكرية

في زمنٍ تتقاذفه الموجات الفكرية وتتعدد فيه القراءات للنظام الإنساني والحياتي، تبرز أمامنا معضلة كبرى، هي محاولة بعض العقول البشرية وضع الدين والفكر الحداثي على خطٍّ واحد، وكأن بينهما مساحة التقاء أو أرضية مشتركة. والحقيقة أن المقارنة بينهما تشبه الجمع بين خطين متوازيين لا يلتقيان أبدًا، لأن كليهما يقوم على أسس متباينة جوهريًا. إن وضع هذين المفهومين في كفة واحدة ليس سوى عبث بالمنطق وظلم للفهم.

أولًا: الدين - نظام إلهي محكم.

الدين ليس اجتهادًا بشريًا ولا مشروعًا زمانيًا محدودًا، بل هو منظومة سماوية منزَّلة من عند الله تعالى، جاءت بالكتب التي لم تترك صغيرة ولا كبيرة إلا أحصتها، قال تعالى: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ [الأنعام: 38].

إذن فالدين ليس مجرد عبادات طقوسية، بل هو منظومة متكاملة تشمل جميع أبعاد الحياة: الفردية، الاجتماعية، الاقتصادية، والسياسية. وقد أكّد القرآن الكريم هذه الشمولية بقوله تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل: 89].

لقد وضع الله سبحانه لكل مخلوق نظامًا وقانونًا:

الجبال والوديان لها قوانين.

النبات له قوانين.

البحار والأنهار لها قوانين.

السماء والأرض لها قوانين.

وكذلك الإنسان والحيوان وسائر الكائنات.

ولو انحرف أيٌّ منها عن القانون الذي أوجده الله له لاختلّ التوازن، وفُقد الانسجام، وربما آل الأمر إلى الفناء. وحتى العلوم الطبيعية كالكيمياء والفيزياء والطب ليست سوى اكتشافٍ لسننٍ أودعها الله في الكون، قال تعالى:

﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [الفرقان: 2].

ثانيًا: الفكر البشري أو الحداثة

على النقيض من ذلك، فإن الحداثة ليست إلا إنتاجًا إنسانيًا ناشئًا عن تراكمات زمانية وحياتية. وهي في كثير من أطروحاتها تسعى إلى أن تكون بديلًا عن النظام الديني، إذ تنطلق من رؤية بشرية نسبية قابلة للتغيير والتبدل تبعًا للظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية، بلا ثبات ولا مرجعية عليا.

ومن أبرز سمات هذا الفكر:

1. الازدواجية في المواقف:

ترفع الحداثة شعارات براقة ك «الحرية والمساواة»، لكنها تبنيها على أساس نسبي متغيّر، فتطبق العدالة في مكان وترفضها في مكان آخر تبعًا للمصالح، وهذا ما نراه في السياسات الغربية التي تغض الطرف عن حقوق الشعوب متى تعارضت مع مصالحها، خلافًا للمبدأ القرآني:

﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى [الأنعام: 152].

2. الدعوة إلى الحرية المطلقة:

تربط الحداثة كرامة الإنسان بحرية بلا قيود، مع أن التجربة تثبت أن الحرية المنفلتة تتحول إلى فوضى، أما الإسلام فقد أقر الحرية، لكنه ضبطها بحدود الشرع والعدل. قال رسول الله ﷺ:

«إنا معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم».

3. التناقض في التعامل مع العلوم:

الحداثيون يعترفون بقوانين الطب والهندسة والكيمياء، لكنهم يتجاوزون القوانين الإلهية في الدين، فيجعل كلٌّ منهم نفسه مفسرًا للقرآن ومؤولًا للحديث بغير علم. وقد أمرنا الله بقوله:

﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [النحل: 43].

من هنا ندرك أن وضع الفكر الديني الإلهي جنبًا إلى جنب مع الفكر الحداثي البشري ليس سوى تسطيح للمفاهيم وقشمرة فكرية لا تنطلي على من يمتلك وعيًا وبصيرة، فالدين ثابت بقوانينه الإلهية، بينما الحداثة نسبية متغيرة، الدين يقوم على الوحي والحق المطلق، بينما الحداثة قائمة على المصالح والرؤى المتبدلة.

قال تعالى: ﴿أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لَّا يَهِدِّي إِلَّا أَن يُهْدَىٰ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [يونس: 35].

أخطر ما يترتب على المساواة بين الدين والحداثة هو خلط الحق بالباطل، وتقزيم الدين إلى مستوى اجتهاد بشري، ومنح الفكر الإنساني سلطة مطلقة تتجاوز حدود العقل والواقع، وقد حذّر القرآن من هذا الخلط بقوله تعالى:

﴿وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 42].

إن إدراك هذه الفوارق وحماية المفاهيم من التشويه ضرورة فكرية وحضارية، تحفظ للدين قدسيته، وللعقل الإنساني مكانته، دون أن يُختزل الأول في الثاني، أو يُسوّى بين الحق المطلق والاجتهاد النسبي.

كاتب رأي، وموظف في القطاع المصرفي.