حين يبكي المجتمع بصمت

في زمنٍ تغمره الأضواءُ وتفيض فيه الأصوات.. بات الصّمت أكثر حضورًا من كل الضجيج. زمن امتلأت فيه العيون بالبصر.. لكن القلوب عميت عن البصيرة. زمن تتزين فيه الوجوه بأقنعةٍ صقيلة.. تخفي خلفها ملامحَ الإنهاك.. وتُثقلها ابتساماتٌ بلا حياة. وفي خضم هذا الزيف.. يتردّد سؤال مُرٌّ كصفعة على وجه الإنسانية: هل ما زلنا بشرًا حقًا..؟؟

ذلك هو أنين المجتمع.. بكاؤه الذي لا يُسمع.. دموعه التي لا تُرى.. صراخه المكتوم بين جدران الأرواح. مجتمع يضحك في العلن.. وينهار في السر. يزدحم بالمباني الفارهة لكنه يخلو من الدفء.. يفيض بالتواصل الرقمي لكنه يموت عطشًا إلى كلمة صادقة أو حضن دافئ.

أيها الإنسان.. إلى أين تمضي؟ جيبك يفيض بأجهزة تسمع الأرض وما عليها.. لكنها لا تسمع وجع قلبك. تتابع أخبار العالم في طرفة عين.. لكنك لا تلتفت إلى جارك الذي يسكن خلف الجدار. تكتب آلاف الرسائل في دقائق.. لكنك تنسى أن كلمة واحدة تُقال بصدق.. ”كيف حالك“؟ ".. قد تنقذ قلبا يوشك أن يتصدّع. لقد صار حبرنا غزيرا لكن دفء كلماتنا نادرًا.. وصارت أصواتنا مرتفعة لكن إنصاتنا صامتًا.

غريبٌ زمننا هذا.. نضحك في الصور بينما وجوهنا باهتة من الداخل.. نتصافح بالأيدي بينما تمتد بين الكف والكف جدران من الجفاء. نلتقي في الطرقات كظلالٍ عابرة.. ونعود إلى بيوتنا كجزرٍ معزولة. إننا لا نفتقد الطعام ولا السقف.. بل نفتقد الرحمة.. ولا نبحث عن مزيد من الضجيج.. بل عن لمسة إنسانية تُعيد لأرواحنا سلامها.

المجتمع لا ينهار حين تفرغ خزائنه من المال.. بل حين تفرغ قلوبه من الرحمة. لا يسقط حين تضيق بيوته.. بل حين تضيق صدوره. أخطر وباءٍ يهددنا اليوم ليس ذاك الذي ينتشر في الهواء.. بل ذاك البرود الذي يستوطن النفوس. أخطر زلزال ليس الذي يهدم الجدران.. بل الذي يهدم المعاني. وما قيمة عمرانٍ شامخ إذا خلت قلوب ساكنيه من الحياة..؟؟

نحن اليوم أحوج ما نكون إلى ثورة القلوب. ثورة لا تُشعلها البنادق ولا الحجارة.. بل تُشعلها دمعة صادقة وابتسامة مخلصة. ثورة تُعيد للكلمة روحها وللابتسامة هيبتها.. وتمنح الإنسان وجهه الإنساني قبل أن تبتلعه الأقنعة. ثورة تُدرّبنا من جديد على مهارات كدنا ننساها.. أن نصغي.. أن نعفو.. أن نبتسم.. وأن نُعطي بلا مقابل.

فلنعلنها ثورةً على الجفاء.. قبل أن يُعلن الجفاء موتنا. لنهدم جدران القسوة قبل أن تهدمنا. فالمجتمع الذي يُعيد للإنسان إنسانيته هو وحده القادر على مواجهة كل أزمات الدنيا.. مهما عظمت.

فلنكن نحن البداية.. لنمدّ الجسور حيث تهدمت.. ونزرع الدفء حيث جفّت القلوب. ربّ كلمة دافئة تعيد إنسانًا إلى الحياة.. وربّ نظرة حانية تُصلح ما أفسدته سنوات من الصمت والبعد. لنوقن أن أجمل ما نتركه خلفنا ليس ميراث مالٍ ولا بريق منصب.. بل اثر طيب في قلب آخر. اثر كالشعلة يضيء الدروب المظلمة.. ويرد للروح بهجتها.. ويظل حيًّا حين نمضي إلى صمتنا الأبدي.

فلنجعل من حياتنا جسرًا لا جدارًا.. ومن كلماتنا بلسماً لا سهامًا.. ومن قلوبنا بساتين ظلٍّ لا صحارى جفاء. لنكن نحن الذين يُعيدون للإنسان معناه.. وللحياة نكهتها.. وللروح دفأها. فما قيمة العمر إذا لم يُترجم إلى أثر..؟؟ وما جدوى الطريق إذا لم يترك خلفه نورًا يهتدي به التائهون..؟؟

يا أيها الإنسان.. إن أجمل ما نودّع به هذه الدنيا ليس ما نُخلّفه من قصورٍ أو حساباتٍ أو ألقابٍ صاخبة.. بل ما نتركه من بقايا حنان في قلبٍ غريب.. وما نزرعه من بذور أمل في صدرٍ مُنهك.. وما نُشعل به من قناديل دفء في أرواحٍ أطفأها البُعد.

إننا لا نُوزَن بما نملك.. بل بما نمنح. لا نُقاس بما نجمع.. بل بما نزرع. وسيبقى أثرنا في الناس هو مرآتنا الحقيقية.. وهو الامتحان الأصعب الذي لا يخضع لامتحانات الدنيا.. بل لامتحان الضمير والذاكرة والتاريخ.

فلنكتب أعمارنا بأفعال من نور.. ونخلّد أسماءنا في وجدان الآخرين بما نصنع من إنسانية. لأن ما يبقى بعد الرحيل ليس المال ولا المناصب.. بل ذلك الأثر الخفي الذي يحيا في القلوب كنبض لا يزول.. وكصوت لا يخفت.. وحياة تمتد بعد أن نمضي نحن إلى صمتنا الأبدي.

فالحياة قصيرة.. لكن الإنسانية قادرة أن تمنحها خلودًا.

رئيس مجلس إدارة نادي الإبتسام بأم الحمام