العطش الشديد
العطش الشديد هنا لا اقصد به الجاحة الى شرب الماء وإنما عطش من نوع آخر ربما يصاب به الكثرون دون ان يشعرون به، عطش لا ترويه مياه الأرض، هو من أشد واقسى أنواع العطش، وهو عطش ملازم لتك الأرواح التي تبحث عن أحلامها الضائعة التي فقدتها وتاهت عنها وسط الزحام، أو تم تأجيلها لتدخل في طي النسيان والتلاشي مع مرور الزمن لتترك محلها حسرات وتنهيدات وأنين كلما مر طيفها على خاطرها لصير صدى لوجع عالق في زوايا القلب.
في لحظات السكينة والهدوء تتعرع الأرواح من الزيف وتخرج المشاعر من أماكنها فتصب الدموع على الجروح لتزيد من حرقتها، فيتجسد عطش الروح في حنينها إلى أحلامها التي فقدتها نهارًا، لتبكي عليها ليلاً، تظل تراقب وتترقب في حالة انتظار، تبحث عن شيء مفقود، أمانًا أو استقرارًا ربما شيء أكبر.
فالليالي بصمتها ساحة تعج فيها صرخات الأحلام لتبحث عن قطرة ماء تروي بها عطشها، فتنبش في الذاكرة والذكريات، لعل وعسى تجد رسائل من الدعاء تعيد إليها الحياة وتروي ظمأها؛ لتجد فيها موطنها.
الليالي العطشى ليست مجرد ساعات تمر، بل هي محطات نقف عندها كمسافرين في قطار الحياة، نتأمل محطات الرحيل، نراجع
وعودنا القديمة، ونبحث في جيوبنا عن بقايا حلم لم يذوب تحت وهج شمس النهار.
هناك من يرتوي حين يعانق حلمه، وهناك من يبقى عطشه، يسير تحت ضوء اليالي المقمرة، يراقب ظلها الممتد على الطرقات الخالية، يسأل نفسه: هل للعطش نهاية، أم أن بعض الأرواح خُلقت لتبقى ظمأى وفي حالة عطش دائم؟
لكن العطش ليس ضعفًا، بل هو دليلٌ على الحياة، على أن هناك شيئًا ما نفتقده، شيئًا ما لا يزال في الطريق إلينا، أو ربما، شيء علينا أن نبحث عنه بأنفسنا في أعماق الليل. فبعض الليالي ليست إلا اختبارات للصبر، ودروسًا في انتظار النور الذي يأتي مع الفجر.