في الممنوع
نعم . لا ليس المطلوب منا إذا أرادنا التقدم والترقي ألاَّ نكون عرباً أو مسلمين ، أو أن ننغمس حتى شعر رأسنا في ثقافة الأمم الأخرى ، أو ننبهر بمنتجاتهم الفكرية والمادية بصورة تُعمينا عن رؤية ما أنتجته حضارتنا الإسلامية والعربية الرصينة ، أو أن نشطح في تطرفنا نحو الغرب لدرجة الإغتراب الثقافي والإنفصال عن بيئتنا التي لطالما شربنا من ينبوعها الذي لا ينضب ، بل المطلوب أن نكون عربًا جُدد ، المطلوب هو أن يظهر فينا ( مُجدِّدٌ ) ليستأنف سيرة القديم بصورة جديدة ، وعلينا أن نستوعب هذا ( السندباد العصري الجديد ) وأن لا نحاربه بالإقصاء وبالتشويه أو بالتصفية البيضاء ، أو بالحرمان من التبليغ وعدم التمكين خوفاً من أفكاره ( المنحرفة في رأينا ) ومطالبته المشروعة التي تؤكد على أهمية المراجعة والتحقيق فيما يُعدُّ معقول حتى اللحظة ، والعمد إلى الإحتفاظ به بعيداً عن عيون الرصد خشية من أن يتحول إلى مربع اللامعقول بالرغم من أنه ربما لا يكون من الثوابت بل إنه ينتمي إلى عائلة المتغيرات .
قيل للشاعر الأميركي العظيم ( وتمان ) وكان قد ناقض نفسه ذات يوم : لقد نقضت نفسك في الرأي ، وقلت بالأمس ما نسخته اليوم ؟ فأجاب : نعم إنني أنقض برأي اليوم رأي الأمس ، فماذا في ذلك ؟
ويقول الفيلسوف الفرنسي ( فولتير ) : إثنان يستطيعان تغيير رأيهما ، العالم لأنه يعلم ، والجاهل لأنه لا يعلم .
وعندما تعرض رائد الفلسفة العربية د . زكي نجيب محمود ( رحمه الله ) والذي عمل على ( تجديد العقل العربي ) إلى هجمة شرسة من المحتجين والمدافعين بضراوة عن التراث العربي والإسلامي أجاب قائلاً : [ إن تاريخنا الثقافي أشبه شيء في صورته بالعمارة الإسلامية ، حين يقام البناء على رقعة من الأرض معينة الحدود حتى إذا ما صعد إلى الطابق الثاني ، برز بجوانبه ، ليجيء هذا الطابق الأعلى أوسع رقعة من الطابق الأدنى وكذلك يحدث في الطابق الثالث حين يرتكز على ما هو أدنى ، ثم يبرز بجوانبه ليصبح أرحب . وهكذا فعلنا في مراحلنا الثقافية ، فنحن إذا انخرطنا في الثقافة العربية ، لم نمح جذورنا الماضية ، بل بنينا فوقها طابقاً يرتكز على ذلك الماضي ثم يتسع ] . وكان قد أثرى المكتبة العربية بمجموعة قيمة من الكتب التي تهدف إلى تحرير الفكر من الظلامية الثقافية منها كتاب : عربي بين ثقافتين ، والمعقول واللامعقول في تراثنا الفكري ، و تجديد العقل العربي ، ثم توجَّها بكتاب يروي سيرته الذاتية بعنوان : حصاد السنين . ( بغض النظر عن تحفظي عن مضمون بعض من هذا الكتاب أو ذاك )
إن الإفتراض العقلاني والنظرة الثاقبة يقتضيان التقدير والاحترام لكافة المراجعات التي يبادر إليها ( الفكر الإنساني ) في أي إتجاه ، والتي هي بمثابة عودة واعية للذات بعد طول إنغماس في الماضوية الثقافية ، وهذه العودة وبعد هذه السنين الطويلة من الممارسة لا تعد انتكاسة أو تنـاقضاً أو هزيمة ، بـل على العكس ، النـكوص
والهزيمة والتراجع تنطبق على الذين يسيرون طيلة حياتهم في درب ذو إتجاه واحد دون أن ينتقدوا مسارهم أو أن يجاروا سنن التطور في المراجعة الواعية التي لا تستثني ما هو معقول لا لشيئ إلاَّ لغياب الجرأة على المبادرة لإتخاذ هذه الخطوة التي تمثل العنصر الأساس لكل متطلع إلى التقدم والرقي ، والهروب من دائرة التأثر بالآخرين والإرتهان لإنتاجهم الثقافي ، إلى السيطرة على نقطة الإرتكاز في دائرة التأثير فيهم .
هل من المعقول أيها الأحبة أن يصر البعض على الصمود في الأبراج العاجية والتمسك بالأفكار التي تجاوزها الزمن ، يستنكرون كل جديد يطرأ على الساحة الثقافية نتيجة للمراجعة والتحقيق ، وتثور ثائرتهم عندما يبادر ( من يبادر ) إلى إعادة قراءة تلك القوالب الثقافية ( بطريقة لولبية ) ويخرجها من مربع القدسية الوهمية بهدف النقد الخالص الذي يرمي إلى ردها لجادة الصواب والمعقول بما يتوافق مع الحق والمنطق بتجرد تام ، وبدلاً من المناقشة والحوار بطريقة حضارية ، يعلنون سخطهم ، ويستنهضون أتباعهم وأنصارهم ، ويلجأون إلى أساليبهم القديمة وهي الخندقة الفكرية وتوجيه التهم تلو التهم إلى أولئك المبدعين الذين تجاوزا الخطوط الحمراء المصطنعة واقتحموا دائرة الممنوع بوعي ومسؤولية من أجل إعادة إنتاج القوالب الثقافية القديمة ، وليس نسفها كما يعتقد هؤلاء البعض . فكم من فكرة ، أو عبارة ، أو حادثة أُلبست عباءة القداسة عبر التاريخ ، ثم بعد التحقيق يُكتشف بأن لا أساس لها من الصحة ، أو أنه شابها الكثير من التشويه والتحريف أما بالزيادة أو بالنقص لتوافق هوى أنصارها ليس إلاَّ ، أو لأنها أحد أدوات الحفاظ على التماسك الثقافي في وجه الأعاصير العاتية التي تهب عليهم من هذه الجهة أو تلك وتعمل على تشويه أو طمس تلك الموروثات الثقافية المعتبرة حسب إعتقادهم والتي لا تقبل الجدل أو المناقشة على الإطلاق . تحياتي .