توقير اللباس 1-2
يتميز إنسان الحضارة عن الإنسان البدائي بلباسه من حيثيات عديدة كالمساحة التي يغطيها من الجسد و التصميم و الألوان و المواد المستخدمة. صحيح أن حقيقة الإنسان واحدة لا تتغير بتغير اللباس فلو قدم إنسان فجأة من غابة في مجاهل أفريقيا ممن بالكاد يسترون خصوص المواضع المحرمة, و ليس له حظ من العلم و الفهم و التحضر و ارتدى البنطلون و ربطة العنق أو العباءة الدينية و العمامة فإن ذلك لن يغير من حقيقته شيئاً.
و بالعكس تماماً فلو تخلى الطبيب عن لباسه الخاص و حضر المستشفى بملابس النوم مثلاً فإن ذلك لن يسلب منه علم الطب و قدرته على التشخيص و العلاج. و اللباس مما يتمايز به الناس عن بعضهم من حيث الدين و القومية و المهنة و الجنس و العمر و الرتبة الاجتماعية و المستوى الثقافي و العلمي.
و السؤال : إذا كانت حقيقة الإنسان واحدة و جوهره لا يتغير بتغير الأزياء الظاهرة, فلماذا يحترم و يوقر أو يزدرى و يحتقر الناس بعضهم بعضاً اعتماداً على ما يرونه من لباس و أقمشة؟ بل لماذا تتغير نظرة الناس من نظرة حسنة إلى سيئة بعد رؤية شخص ما بثياب عادية أو وضيعة – حسب نظرهم –؟ أو تتغير النظرة من سيئة إلى حسنة بعد رؤية شخص ما بأزياء تخص المحترمين و ذوي الشأن من أهل المال أو العلم أو المنزلة الاجتماعية الرفيعة؟
لا بد من التفريق بين الانطباع الأولي الذي يتصوره الناس عند رؤية شخص يرتدي لباساً خاصاً و بين النظرة الثابتة التي يتبناها البعض بسبب الصفات الظاهرية و الأزياء التي يظهر بها بعض الأشخاص. إن رؤية شخص ما بملابس الطبيب أو ملابس الفلاح أو الجندي تبعث – بفعل الاقتران الشرطي – على الاعتقاد بأن هذا الشخص طبيب أو فلاح أو جندي بالفعل إلا أن يثبت غير ذلك. فلو رأيت شخصاً بملابس الأطباء و أنت تعلم أنه ليس كذلك فإنك لن تطلب منه العلاج ولن تتوقع منه دور الأطباء الحقيقيين.
إذن قد ينطبع في الذهن شيء بفعل الاقتران الشرطي الذي يشكل سمة سلوكية عامة في كثير من الكائنات الحية. فالخيل – و هو حيوان له ضوابط سلوكية – يصهل عند رؤية سائسه في موعد الطعام و لا يعد ذلك عقلاً و عبقرية فذة بل هوسلوك منبعث من اقتران شيء بشيء.
ولا ضير مطلقاً في ما ينطبع في أذهان الناس للوهلة الأولى عند رؤية من يرتدي زياً دينياً ( كالعمامة و العباءة ) أو مهنياً(كقميص الأطباء الطويل) أو قومياً ( كالثوب و العقال ) أو غير ذلك من أصناف اللباس. و لكن الحصيف هو من ينظر إلى حقائق الأشياء و ليس إلى ظواهرها, فرب سارق بلباس رجال الأمن و رب أعجمي بلباس العرب و رب متهتك بلباس الأتقياء و علماء الدين.
إذن لا غنى عن العلم و المعرفة و التعقل, و ليس من العقلاء من يرهن مصير حياته إلى من ارتدى لباس الأطباء خداعاً و ليس من العقلاء من يثق بكل قماش التف على رؤوس الرجال. إن من الوهن و العجز أن نستسلم أمام العقائد و الأحداث و الشبهات و النظريات و الآراء الفكرية الشائكة ثم نسلم عقولنا سلعة رخيصة لأقمشة حيكت بهيئة تبعثنا على احترام من يرتديها لو رعاها حق رعايتها.
إن النفاذ إلى عمق الأمور يقتضي الحذر من المظاهر و ألا يقف سلوكنا عند حدود الاقتران الشرطي الذي تشاركنا فيه البهائم و الحيوانات. أنى للطيور أن تدرك حقيقة الفزاعة – صليب يرتدي ثوباً – التي ينصبها المزارعون تخويفاً لها؟ و أنى للتقديسيين من ذوي النظر السطحي أن يدركوا حقيقة من يقدسونهم و قد وضعوا خطوطاً حمراً غليظة على عقولهم و ألبابهم؟