أي عقلٍ ديني نريد؟!
يبقى الواقع البشري محيطاً تعلوا فيه الأمواج وتنخفض، وتصعد فيه الأزمات وتهبط، ويبقى العقل البشري في خضم هذه التموجات كبيرها وصغيرها مبحراً بجهلٍ أو بهدى وعلم نحو حلولٍ تريحه من أعباء وآلآم سفر الحياة المتعددة والمتنوعة وتخلصه منها، وفي ثنايا تلك النفس الإنسانية السائرة في المجاهيل تموجات إنسانية عاطفية دينية أو غير دينية تقترب بهذا الإنسان من حلول الأزمات أو تنأى بذلك الإنسان بعيداً عنها... الخ. وتستمر الحياة.
ومهما يكن في وسط هذه التموجات من مساحات للهدوء، ففي مسيرةٍ بشريةٍ طبيعتها التعقيد والتشعبات والتحولات وتناقضات المصالح والرؤى والأهواء، فلا بد أن تقف المجتمعات وأن يقف الأفراد بين الفينة والأخرى على تلة البارود، ولا بد من منقذ، ولا بد من عقلٍ حصيف، ورأيٍ سديد، وعلم ومعرفة تقود إلى الخلاص، فمن هو المخلص؟! وأين يريد العقل البشري هنا إذا تكلمنا بشكلٍ عام، والعقل الشيعي إذا تكلمنا بشكلٍ خاص، والعقل الشيعي الخليجي المحلي تحديداً - وهو ما يهمنا هنا - إذا تكلمنا بشكلٍ أخص، أن يرى أو أن يضع نفسه في وسط محاولات الخلاص من تلك التأزمات؟!.
أين نريد أن نقف؟! وماذا نريد أن نصنع؟! وهل نريد أن نكون صناع حلول؟! أم صناع أزمات؟! أي عقلٍ دينيٍ نريد؟! وهل حقاً يمكن على قواعد منطقية وعقلية صحيحة أن يكون العقل الديني قائداً وصانع ومولد حلول في ساحة قد لا تكون من صميم إختصاصه؟! أم أن ذلك العقل محله وقدره فقط أن يكون منتج وصانع أزمات؟! ماذا يقول التاريخ هنا؟! وماذا يقول الواقع؟! فهل فشل ذلك العقل في توليد حلول حتى في ساحة الجوارب والعباءات؟! أم نجح حتى في ساحات صناعة الدول والمؤسسات السياسية والإقتصادية والعلمية الضخمة... الخ؟!. أم ماذا؟!.
إن كل الأسئلة هنا مشروعة، والمحاكمات جائزة، بل واجبة، خصوصاً أن هناك من يدعون أنهم ضحايا لتلك العقليات الدينية المهيمنة، ومن يحرمون ذلك هنا، فما هم إلا مغرمون بالتيه والجمود والإستبداد والظلم، والأجوبة بالطبع ستكون متنوعة كتنوعنا نحن بني البشر، فالبعض قد شغف حباً بالعقل الديني حتى رآه إله الحل، فتسنم الفرصة وأله نفسه أو كان قنوعاً ومتيماً جداً فأله غيره ورضي بكل تلك الأجوبة الجاهزة والمعلبة التي يقدمها هذا العقل «فقلدها عالماً وطلع منها سالماً» كما يبدو له، وآخرون قد شغلتهم عداوتهم حتى النخاع للعقل الديني لتجرهم عداوتهم تلك لجر كل سبة لما هو ديني ولكل ما ينتمي للدين، حتى لو كان الدين براءً من كل ما قيل فيه أو باسمه، ناسين أو متناسين أن الدين والعقل الديني قد قدم تجارب وحلولاً ناجحةً عبر التاريخ، وآخرون مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، أما بعض الناس فقد وقف الواحد منهم حائراً ومستسلماً في نفس الوقت للتيارات فإن جره أحدهم يميناً ذهب يميناً وإن جره آخر يساراً ذهب يساراً - ربما لأنه «كالأطرش في الزفة، لأنه ربما متكاسلٌ في البحث والنقاش والنقد الجاد» -... إلى آخر تلك القائمة.
وهنا إسمحوا لنا أن نعود للتساؤل: أي عقلٍ دينيٍ نريد؟! وهل حقاً يمكن أن يصنع العقل الديني الموجود حالياً حلولاً لأزماتنا الحياتية والسياسية والإقتصادية والإجتماعية... الخ، كما يزعم الكثيرون؟! أم أنه قد فشل مسبقاً في دفع كل الشرور وورط تابعيه في ورطة صعوبة الخروج حتى من مأزق ماء الكر وتشذيب اللحية والإستهلال لإثبات العيد؟! فهل يمتلك العقل الديني أدوات كافية للإبحار في محيطات قضايا ومسائل وعلوم السياسة والإجتماع الضخمة والمعقدة والواسعة أو غيرها من القضايا التخصصية؟! أم لا؟!. وهل تم التجني على العقل الديني هنا بهذه الأسئلة؟! أم هو الجاني لا المتجنى عليه؟! وهل العقل الديني كفوء يستحق الإشادة به لا الإنتقاص منه؟! أم أنه مصاب بعاهة ذاتية، تخرجه من مساحات العقول السوية، وتجعله الأكثر فوضى والأكثر أذية؟!.
وهنا فهل يعتبر النموذج السيستاني في عراق ما بعد صدام حسين جواباً واضحاً صارخاً ومسكتاً في وجوه كل أعداء الدين والحلول الدينية ومخرساً لكل إعتراض على قدرات العقل الديني لقدرة التجربة السيستانية المثبتة هنا في الواقع المعاصر على نزع فتيل البارود بحكمة في قضية هي من أخطر القضاية المعاصرة التي واجهت الإنسانية والشعب والإنسان العراقي خصوصاً؟!. كما يمكن أن يعتبر نتاج الشهيد السيد محمد باقر الصدر الثقافي والعلمي أيضاً دليلاً آخر على قدرات وكفاءة أبناء الحوازات الدينية وخريجيها ومخرجاتها؟!.
ألم يخرج الحل السياسي في العراق هنا من جعبة رجل دين لا يعد كما يراه أعداء الفكر الديني متخصصاً أكاديمياً في السياسة ولا غيرها من العلوم الحديثة؟! ألا يعد هذا مما يبرر إخراس ألسنة المعترضين؟! أم أن النموذج هنا ليس سوى استثناء؟! والحياة بطبيعتها مليئة دائماً بالإستثناءات؟! أم ماذا؟!.
وتبقى الحياة تمضي كما تمضي وفي كل يوم يرتقي رجل دين منبراً هنا أو هناك، هذا يقدم حلولاً في السياسية، وذاك يقدم حلولاً إقتصادية، وآخرون يقدمون حلولاً نفسية أو تربوية أو إجتماعية أو أسرية... الخ، فإن أصاب رجل الدين هنا فله أجر، وإن أخطأ فله أجر، دون ضابط، مع أن هؤلاء غالباً لم يدرسوا في مدارسهم الدينية أو الحوزات والمدارس الدينية ولا كتاباً واحداً متخصصاً في ذلك الذي يتحدثون فيه، فهل هذا الفعل خاطيءٌ؟! أم لا؟! هل يجب تطوير الحوزات وتحديث مناهجها لتواكب احتياجات العصر؟! أم يجب إخراج الحوزات ورجالها من سوح الفتوى في السياسة والإقتصاد... الخ، مما لا يدرسه رجال الدين عادةً بشكل أكاديمي متخصص؟! أم أن هؤلاء هم فقط بشرٌ كغيرهم، ويجب أن يتاح لهم ما يتاح لغيرهم من حرية التعبير والبحث والتفكير؟! أم أنهم أرفع من كل شيء وفوق ذلك المستوى وبجدارة، ويجب أن تفرض آراؤهم على الناس، لارتباطها بكتاب الله، كما تفرض الصلاة، وكما يفرض الصيام؟!.
ومن جهة أخرى، فلماذا هنا التركيز على العقل الديني ورجل الدين وترك البقية من غير المتخصصين يسرحون ويمرحون في ساحة الأفكار والآراء من غير محاسبة؟! ألا يمارس المثقفون مثلاً نفس تلك الحالة الطفيلية على العلوم الأخرى التي لم يدرسوها؟! وإذاً فهل هذه الحالة إيجابية وتعد إثراءً للساحة الثقافية والفكرية؟! أم هي سلبية وتعد خراباً ودماراً لخصوصية تكوينية فيها؟!
هل المشكلة كامنة حقاً في مجرد تدخل رجل الدين في ساحة إبداء الآراء وعرض الأفكار وتقديم الحلول في مساحات تعد تخصصية أحياناً؟! أم أن المشكلة كامنة فقط في تلك اللغة الفوقية التي تجعل المتكلم هنا إذا تكلم من فوق تلك الأعواد الدينية المادية أو الرمزية إلهً للتوجيه وفرض الرأي، ينتقص وينتقد ولا يُنتقد ولا يُناقش، بينما يجوز ويحق هنا له ولغيره نقد ونقاش من سواه؟!.
وإذاً، في ساحة هذه الإعتراضات، فهل المطلوب هو إقصاء رجل الدين عن سوح السياسة والإقتصاد والإجتماع... الخ، باعتباره فاقداً لأهلية التخصص، أم أن المطلوب هو فقط كسر هيمنته على العقول القادمة من وراء حصانته الدينية ضد النقاش والنقد؟! أم ماذا؟!.
وهل المشكلة في رجال الدين وفي الرموز الدينية والنخب الدينية، أم أن المشكلة هي في طبيعة ونمط التفكير الديني عموماً، وبعبارة أخرى فهل المشكلة هي سيادة حالة فرض الرأي التي تربيها تلك العقلية والحالة الدينية المتوارثة التي نمطت المجتمع باتجاهات هذا التفكير الفوقي المتعالي على النقد؟!.
فأي عقلٍ ديني نريد؟! عقل مهيمن؟! أم عقل منفتح متكامل لين حي متفاعل ومستجيب مندمج مع بقية مكونات تفاعلات النقد وحالته الموسعة لأفق الرؤية؟!، خصوصاً في زمنٍ نحن نعلم فيه جميعاً أن مشروعية وقابلية الموسوعيين الأقدمين أمثال إبن سينا وإبن حيان وإبن خلدون وإبن البيطار... الخ، للتخصص في أكثر من علم، قد كسرت وفقدت بفعل الزمن وتطوراته، ولا يمكنها أن تعود، وأن تكون مقبولة وصالحة أبداً في هذا العصر وهذا الزمن، الذي هو عصر إنفجار المعلومات، حيث أصبحت التخصصات وتشعباتها هي الحل في وجه تضخم المعارف والعلوم البشرية، وهنا بالتحديد ربما لم تقدم المدارس الدينية أية استجابات تخصصية تذكر في وجه متطلبات العصر، رغم انطلاق بعض النداءات من داخل الحوزات الدينية نفسها، بل قد يمكن الزعم بقوة أن تلك المدارس الدينية قد أبقت تلك الحالة التقليدية التاريخية الموروثة لعلماء العصور والقرون الأولى التي باتت غير صالحة لهذا العصر على ما كانت عليه، مع أنه قد أضحى واضحاً اليوم أنه لا يمكن هنا أن تكون طبيباً وفلكياً ورياضياً وشاعراً... الخ في نفس الوقت، فكيف يمكن أن تكون مخبراً عن الله وعن الدين في كل شيء يخطر على قلب بشر وفيما يتعلق بكل التخصصات سياسية واقتصادية وطبية ونفسية... الخ، وبلا حدود؟!.
إين هي الحقيقة هنا؟! هل يتم التجني على رجل الدين والحالة الدينية بمثل هذه التساؤلات، وفي نفس الوقت يتم إفساح المجال للآخرين خارج الحالة الدينية حتى وإن لم يكن أولئك مستكملين لشروط التخصصات وواجباتها التي يطالب بها رجال الدين وتطالب بها الحالة الدينية؟! أم أن رجال الدين والنمطية السائدة للعقليات في العقل الديني في مجتمعاتنا هي الجاني لا المجني عليه؟!.
إن الأزمات القادمة كثيرة، والحاجة للمواقف المصيرية الحكيمة والآراء الرشيدة المطلوبة ستكون حاضرة دائماً بقوة كما كانت دائماً عبر التاريخ، فأي عقلٍ سنحتاج في تلك الأيام، وتلك اللحظات؟! وأي عقلٍ يجب أن يكون حاضراً فينا وفي مجتمعاتنا؟! ليجيب عن تلك التساؤلات المصيرية في وقتها؟! وبما هو مناسب؟! ومن هو المؤهل لتقديم إجابات صحيحة متوازنة؟! أهو عقل ديني تقليدي محتكر للإجابات وبالتالي القرارات، يمنع النقد ويحتكر الإجابات ويمتنع عن قبول تطوير مؤسساته وعن الإنفتاح على التخصصات العصرية المختلفة المتوسعة والمتفجرة باستمرار؟! أم عقل أكاديمي متخصص ربما يشك كثيرون منا أو بعضنا أقلا في مصداقيته أمام حساسية النص الديني الذي يحتاج لمن يعبر عنه بصدق، والذي تقدسه مجتمعاتنا وتعتبره مصدر الحلول جميعها؟!.
وهنا أمام هذا العصف الذهني، هل يجب أن نتوقف هنا لنقلب الطاولة على أصحاب تلك الأسئلة والشكوك أو التشكيكات وأتباعهم وأشباههم ونظرائهم، لنعود لنسائل المثقفين والسياسيين والإقتصاديين... الخ، فنواجههم بأسئلة حساسة وصادمة قد تكون محرجةً وعلى نمط تلك الأسئلة السابقة أقلاً؟! أم لا؟!.
وقد نعود لنسأل: أي عقلٍ دينيٍ نريد؟! أهو عقلٌ فرعوني يقول «ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد»؟! أم ماذا؟!.
إن الواضح هنا هو أننا مطالبون بأن نناقش هذه الأسئلة وشبيهاتها وأن ننفتح عليها بصدق، قبل أن تحل الأزمات، أياً كان الجواب... فالنقاش والحوار الهاديء حلٌ دائماً أو هو بوابة الحل... وكفى.