الخرافة... أسئلة مشروع الخلاص
صراعات البشرية من أجل محو الظلام وإحلال العلم والنور محله لازالت صراعاتٍ بشريةً مستمرةً ممتدةً منذ قرونٍ طويلةٍ متوارثة ومنقولة عبر التاريخ البشري حتى اليوم، فلم تنتهي الحكاية وتكتب لها النهاية، بل لازالت تلك الحكاية تتشعب كحكايات ألف ليلة وليلة، وقد عاشت البشرية في ظل هذا التاريخ البشري الطويل من الصراع تجارب كثيرةً متنوعةً حافلةً ممتدةً ومريرةً من أجل صناعة التغيير المطلوب ومحو الجهل والجهالات والخرافات والأساطير على أيدي المتنورين والعقلانيين من بني البشر في كل جيلٍ وكل أمة وكل وطنٍ. ويبدو الآن، أن شهرزاد لم تصمت بعد فلازالت تحكي، ولازال في جعبتها الكثير من الحكايات قبل أن يأتي الصباح ويتنفس الناس نسيم الحرية بعمق، فتسكت شهرزاد عن الكلام المباح وتنتهي الحكاية.
ونحن اليوم بعد دهورٍ من محاولات الإصلاح والتنوير، لسنا إلا في ظل منطقةٍ زمنية قصيرة ومحدودةٍ على الخط الزمني الطويل الممتد لمحاولات الإصلاح والتغيير، ولا شك أنه عبر هذا الخط الزمني الممتد من الماضي للحاضر قد كانت هناك ومضات وجهود خاصة للإصلاح، كادت أو خيل أنها ستكون نهايات رحلة البحث عن الخلاص، فكلما ظهر نبي تبرق بارقة أملٍ في خلاص البشرية من سجون العتمة الدائمة والمتعددة والمتنوعة تلك، ليحل النور محل الظلام بشكلٍ نهائي، والوعي مكان اللاوعي، والتحرر العقلي مكان الجمود، وهيمنة العقل على العاطفة محل هيمنة العاطفة على العقل، والجد في التنقيب عن الأفكار محل التكاسل والتساهل في إطلاق الأحكام جزافاً دون بحث وروية وفحص وإعمال حقيقي للعقل يجمع الزوايا المختلفة للخلاص ليخرج بفكرة راقية جامعة لمعادن الحكمة المتفرقة لدى الأضداد في الزوايا المختلفة.
لكن ورغم كل ما كانت تحمله رسالات الأنبياء من بشائر التفاؤل، إلا أنه سرعان ما كان يأفل ضوء الأنبياء والنبوات والرسالات السماوية، فتختفي وصايا النبوة والرسالة والتنوير، تحت وطأة حوافر خيل الإنحراف والتحريف وتحوير الرسالات، للدرجة التي يتحول فيها أتباع الأنبياء، من هداة لشياطين وخوارج ودواعش ومهرطقون وتكفيريون وخرافيون، ومن تنويريون لظلاميون وتجهيليون... الخ، قينشرون التخلف والظلام والجهالات باسم النور، محبطين بذلك كل آمال الخلاص والتنور الواعدة على أيدي الأنبياء - -.
وفوق هذا الضوء المتدحرج في الظلام، فقد عاشت البشرية واقعاً تنوعاً واسعاً غريباً وكبيراً في عالم صناعة التغيير والتنوير شارك فيه طغاة سلطويون تنويريون ورجال دين وفقهاء مقدسون وعباد متنورون وفئات كثيرة متنوعة ممتدة من الشرائح النخبوية حتى الشرائح الشعبية البسيطة، حيث شارك عبر التاريخ البشري في تجارب الخلاص، الحاكم والعالم والشعبي، في تجارب عديدة متنوعة، للحرب على الخرافة وجموح العاطفة وغلبتها للعقل وخلل وقصور وتراخي وتقلص جهود التفكير والعقلانية، فلم يفلح البشر بطرقهم وأدواتهم المختلفة، في تخليص العقل البشري، المعجز في قدراته المكبل في واقعه، من محنته وتأزماته، في مأزق وبلية صراع العاطفة والعقل، بشكلٍ نهائي وتام، بل ولا حتى في الوصول لحلٍ جزئي يستحق أن يذكر في كثيرٍ من زوايا هذا العالم المظلم بجهالاتنا نحن البشر، إلا تلك النجاحات التي لازالت محصورة في بعض زوايا هذا العالم المتمدن اليوم، الذي انقلب فيها البشر هناك بشكلٍ ملحوظٍ على الخرافات والأساطير والجهالات، فحققوا العجائب من الإنجازات. لكن الإنجاز يكابره التكرار والإنتشار، ما يبقي المنجز محصوراً حتى اليوم في زواياه بل مهدداً حتى في منابعه من الخارج والداخل.
ولهذا فلازال البشر حتى اليوم، في كفاحهم وحروبهم المتضادة يعيشون واقعاً في اتون ذلك الصراع بين الجهل والعلم وبين العاطفة والعقل وبين الأسطورة والحقيقة... الخ، والحقيقة العجيبة هي أن هذه الأزمة ليست خاصة بالشعوب المتخلفة فحسب، بل إن الأزمة والمعركة لواسعة جداً وممتدة عبر المعمورة وعبر شعوبها على تنوعهم وتفاوت تحضرهم، فليست الأزمة محصورة في عقول العرب وحدهم فقط، ولا في عقول المسلمين فحسب، ولا في عقول وأدمغة غيرهم من الشعوب كذلك فقط، بل القضية عامة وضخمة وفوق ما يتصوره الكثيرون منا، ومن ملامحها التي لا يلحظها البعض أن تقرأ إحصائيات في الغرب المتحضر، الذي ترفعه تصورات بعضنا فوق الواقع، عن ولايات أمريكية تكاد تصل فيها نسبة التصديق بعدم تحريف الكتاب المقدس حرفاً واحداً إلى نسبة 100٪، وأن تقرأ عن هرطقات الأطباق الطائرة واختطافات الـ UFO بحوثاً ودراسات غربية مجنونة يحضرها ويشارك فيها مجانين غربيون برفقة دجالين أو جهلة من الغرب نفسه، وأن تروج كتب مثل هذه الهرطقات والأكاذيب في ذلك العالم المتحضر.
أما عندنا نحن العرب والمسلمون حيث يضرب التخلف والجهل بجذوره في الأرض لقرون، فحدث ولا حرج، فالعقل والفكر والسياسة والأكاديميات والصناعات كلها مأزومة، تتحالف كلها معاً بإشكالاتها لتعيش الأمة في حضيض الرداءة والتخبط، في عصر العلم وانفجارات المعرفة الضخمة والمتلاحقة، ما يصنع بيئة فاسدة ملوثة خصبة ومؤهلة لإنبات المزيد من الجهالات والحماقات والخرافات الكثيرة المتكاثرة، ليروج تسطيح وتهميش العقل، بشكلٍ كفيلٍ باجهاض جهود أية نهضة مرتقبة وأية تنمية واعدة، سواءً أرادها الحاكم أو المحكوم، وأرادها الديني أو اللاديني، وأرادها القائد أو القطيع، فالقطيع في النهاية سيقلب المعادلة، ليحافظ على مستويات معمقة من الخرافات والجهل والأسطرة ورداءة المنطق والفكر، قريبة جداً مما ورثه أو اعتاده.
وهنا في رحلة الخلاص هذه، فإن أهم ما يجب أن نعرفه جميعاً هو أن يعرف الكثيرون منا ممن يجهلون الواقع، أن العقل البشري في واقعنا واقعٌ في مأزقٍ تاريخي طويلٍ وممتدٍ ومستمرٍ ولازال في مأزق وبشكلٍ واسعٍ ومنتشر، حيث تشخص الأزمة أولاً، وأن نعلم في سياق ذلك، أن الله لم يرحم الغربيين إلا ببركات إنعتاق السياسة والساسة والنخب والمجتمع في معادلاته الكبرى، من آليات الجمود والإرتهان للجهالات والسطحية، لصالح معادلات ومفعلات التنمية، لكن أيضاً يجب أن ندرك أن المأزق العقلي البشري يبقى حاضراً رغم ذلك حتى في الغرب، الذي يؤسس وينشر منهجيات التفكير العلمي وبقوة، لكن ذلك الحضور للجهالات في الغرب يبقى خجولاً نسبياً وواقعٌ غالباً ضمن أسفل الهرم، ما يحجم تغول هذا المارد الجبار الفتاك صنيع العاطفة والجهل، صانع الغل والتخلف والتخبط والأساطير والجهالات.
وإننا في ظل ذلك التشخيص أيضاً، يجب أن نعرف أن العقل البشري ليس أمام مأزق أن نقرأ فقط أو أن لا نقرأ، كي نتنور ونهتدي، فكثيرٌ ممن يصنعون الدمار والخراب حولنا بسبب تفكيرهم الديني، هم على الأقل أحياناً، من أشد الناس نهماً للقراءة، التي لم تحجزهم كثرتها عن الباطل ولم ترشدهم إلى الحق بسبب طبيعتها، ولذا فليس المهم فقط هو أن نقرأ، ولا أن نبعث في مجتمعاتنا نهمين للقراءة، ولا أن نبحث عنهم فقط لنشجعهم على الإنغماس فيها، فكم من قراءةٍ عبر التاريخ قد صنعت داعشياً أو خارجياً أو تكفيرياً... الخ، لم يكن ليولد وليفقد عذرية طهر روحة لولا تورطه فيها، وكم من قاريءٍ نهمٍ لا يخرج من صندوقه الضيق المظلم مهما قرأ، بل لا تزيده قراءته إلا تيهاً في ظلمة قبر فكره المظلم، هذا رغم أن القراءة واقعاً كثيراً ما تضع العقل أمام فرص البحث الجاد فتوصل للتنور والإنعتاق والتحرر، لكن السؤال يبقى أي قراءة هي التي تصنع ذلك؟!.
إن القضية إذاً كما هو واضحٌ، ليست قضية القراءة وحدها فقط في شكلها، ولا في التكاسل عنها في قوتها أو كثرتها، كحل نهائي وجذري في وجه الخرافة والظلامية كما قد يتصور البعض، كما أن القضية ليست فقط هي مشكلة حل سياسي عنيف وصارم يأتي تنويرياً من قبل السلطة من الأعلى ليفرض على البقية بالغلبة والقوة من رأس الهرم، ولا الحل حلٌ ديني يدفع لتقديس العلم والمنطق المضاد للخرافات والجمود والجهل ويدفع لقبول تداول سلطة سياسية لا قهرية غير مؤدلجة مناهضة لأدلجة السياسة، يأتي تنويرياً من قبل فقهاء ورجال دين تسيطر هالات قداستهم على الجماهير فتقودهم عبر قطيعيتهم بقطيعية تقود نحو الخلاص، ولا الحل حلٌ جماهيري فقط يأتي من قبل أفراد جمهور أو نخبة مجتمعية تقترب من الجماهير فتخاطبها من خلال فهم مستوى الإدراك لدى الجمهور فتدك حواجز الجهل بخطاب الجمهور مخاطبة الناس على قدر عقولها ليتحقق النفاذ بالشعبية للولوج إلى بوابات الخلاص والإنعتاق، لينبعث الخلاص والتحرر شعبياً لا من سلطةٍ فوقية.
إن القضية في الحقيقة، خليط مركب من كل شيء في حرب التوازن بين العقلانية والعاطفة، على خط زمن ممتد عبر التاريخ، تعلوه جنود التنوير وجنود الجهل، ولكلٍ قواه وقدرته وفعله وجاذبيته، ولعل جيش الجهل والأساطير والعاطفة والأسطرة أشد وأضخم بكثيرٍ من جيوش التنوير كلها مجتمعةًٍ لو جمعت عبر التاريخ كله، ما يفسر لنا هيمنة الجهالات والأساطير والخرافات والسذاجات وغلبتها على التاريخ كله حتى اليوم.
ورغم أن جبهة الحرب على جنود الظلام والأساطير ومنطق اللامنطق واسعة جداً ومتنوعة، لكن لعل أشد جبهة من جبهات التنوير يمكن من خلالها صناعة فارق حقيقي قابلٍ للنمو بفاعلية، ليست هي في أن ندفع فقط المزيد منا نحو القراءة كما أسلفنا، ولا أن نطلب فقط من الحكومات التنوير كما ذكرنا، ولا فقط أن نطلب من الفقهاء إزالة الظلام والقداسات الزائفة كما أوضحنا، فكل ذلك وإن كان مطلوباً ومهما، إلا أنه قد واجه عقبات كأداء أخفقت المشروع وحجمت مستويات إنجازه. ما يكشف أن هناك خللاً أو عجزاً يجب تجاوزه، أو نقصاً يجب ردمه.
وربما تقع بؤرة كل ذلك الحل ونقص الدور، في أن ندفع المزيد من العقول للبحث العلمي الجاد المبني على توازن الفكر الحر وجودة القراءة الجامعة المصغية للجميع والمتميزة بالإستماع لمختلف مصادر الرأي والقول والمعرفة والطرح المتجردة من كسل إطلاق الإنطباعات قبل الخروج بنتائج وأحكام لبحوثٍ ودراساتٍ موسعة وجادة، وذلك في مختلف القضايا الهامة والحساسة، خصوصاً قضايا الخرافة والأسطورة المهمشة للعقل المهيمنة على عقل الأمة المرتهنة له في الأغلال. لتتكاثر نماذج ذلك المصلح الثقافي القادر والكفوء والمبدع، الذي أفرز الماضي منه أقل من ما هو مطلوبٌ لإنجاز مشاريع الخلاص خصوصاً في عالمنا العربي والإسلامي.
إننا واقعاً بحاجة ماسة لتربية عقول حرة قادرة على التفكير المنطقي الجاد الممنهج تكون راغبة في إنجاز البحوث العقلية والفكرية المضنية تكون بؤر نور لمن حولها ويقودها البحث الذاتي العلمي والعقلاني لتنورها وتنوير غيرها، نحتاج واقعاً للإكثار من هذا الصنف البشري الذي صنع ولازال يصنع الفرق في كل الحضارات والأمم، وهذا واقعاً هو ما سيصنع في النهاية الكثير من الفرق مضافاً لحاجتنا لبقية الفعل وللجهود المختلفة خصوصاً الواقعة فوق خارطة ثالوث «الحاكم - الفقيه - الجمهور»، التي لا يمكن بالطبع تهميشها ولا إنكار ضرورتها، والتي لن يكون العقل العلمي الباحث والمتحرر إلا معضداً لها ومعززاً لدورها ومحركاً لقوتها. وصناعة هذه القوة والمنهجية والنمطية في تفكير أفرادٍ من المجتمع رغم صعوباتها الظاهرة في مشاريع توجيه الرأي والفكر الجماهيري في الفعل العام، لكنها سهلةٌ وممكنة في الفعل الخاص المركز، الممتد ضمن مشاريع وخطط مدروسة موجهة للأفراد.
لكن، رغم ذلك التفاؤل الذي يجب أن يزرع هنا لو تبنينا مشاريع تحررية تنويرية كهذه وقمنا بتفعيلها، فإن علينا واقعاً أن نكون في النهاية أيضاً واقعيين في الآمال وفي توقع وارتقاب النتائج المرجوة، فالواقع البشري في الحقيقةِ مرٌ وصعبٌ ومتشابكٌ وواسعٌ ومتداخل، والبشرية ستتقدم خطوات بلا شك بهكذا مشروعٍ في الطريق الصاعد نحو الخلاص، لكن الخلاص مهما اقترب منا ومن كوكبنا فلن يكون في القريب العاجل ببساطة سريعاً ولا بسيطاً ولا نهائياً.