عرس مفخخ
أكملت العروس زينتها، واتجهت صوب صالة الأفراح التي ستشهد ليلة عمرها، ليلة زفافها على عريسها. توجهت ومشاعر الفرح تتملكها. تعيش حالة من الحلم الجميل، والسعادة الغامرة، والتي لو وزعت على بنات جنسها لكفتهم.
كان شقيقها يقود السيارة الزاهية والمزيّنة بالورود والألوان، وحولها سيارتان ترافقانها. انطلقوا من الخُبر حيث مكان التجميل متجهين نحو أُم الحمام حيث تقام حفلة العرس. وعند اقترابهم من الصالة بدأت الأبواق تنطلق في رسالة للأحبة والأقارب بوصول العروس.
سارت العروس بين صفي المدعوات متجهة لمنصة جلوسها وهي تتمخطر، حتى أخذت مكانها. الكل فرح ومسرور والأمور تسير بشكل طبيعي، حتى وصل أشقاءها للصالة. وقفوا جميعهم خارجاً والابتسامة لا تفارق محياهم. أرادوا مشاركة شقيقتهم فرحتها، وأحبوا مجاملتها، فاتفقوا على إطلاق المفرقعات ذات الصوت المدوي والمزعج ابتهاجاً بهذه المناسبة.
وبالفعل جهزوا أداة الاطلاق، وهي عبارة عن ماسورة مجوفة من الداخل طولها بين النصف متر والمتر، وبدأوا بإطلاق المفرقعات والألعاب النارية والتي أضاءت سماء الصالة وما حولها. بعد برهة قصيرة من بداية احتفالهم طاشت احدى هذه المفرقعات واصطدمت بإحدى الأشجار القريبة من الصالة، فاشتعلت واشتعل ما حولها بسرعة كبيرة، وانتشرت النار تأكل كل ما يعترض طريقها. انقلبت الفرحة الى خوف وهلع، وكاد العرس يتحول الى كارثة حقيقية. والسبب هذه المفرقعات اللعينة. لكن بحمد الله تم تدارك الأمر، وتمكن رجال الدفاع المدني من السيطرة على الحريق بعد جهد كبير، لأن الصالة كانت محاطة بنخيل من ثلاث جهات ساهمت في اتساع رقعة النار. وقد ظلت الذكرى المحزنة لهذه الليلة ترافق العروس وأهلها.
يحكي لي أحد أقربائي وهو شاهد عيان على الحادثة التالية فيقول: "انتهت مراسم الاحتفال بالعريس، وانطلقت الزفة التي تكون عادة مشياً على الأقدام، وتبدأ من مكان الاحتفال مرورا بالمسجد وانتهاء بمنزل العريس. وبالطبع - كما هي العادة ويالها من عادة دخيلة سيئة - صاحَبَ الزفة اطلاق المفرقعات. وقد كان يطلقها أحد محترفي هذا المجال وليس انسانا عاديا، ومع هذا لم يُمنع القضاء. فقد اصطدمت احدى هذه المفرقعات بعد اطلاقها في الهواء باللوحة المعلقة فوق رؤوس الحضور والتي تتضمن الإعلان عن العرس، والمشدودة بحبال من جانبي الطريق، ثم ارتدّت لتسقط على الناس المشاركين في الزفة، فأصيب بعضهم جرّاء ذلك بإصابات متنوعة كانت بين المتوسطة والخفيفة.
ويذكر أحد الأخوة موقفا آخر. فقد كان عرساً لأحد الشباب، وكان شقيق العريس هو من يطلق تلك المفرقعات احتفالا بفرح أخيه، باغتته احداها وانطلقت لتأكل أصابع يديه، فأصبح الآن لا يسرى ولا يمنى لديه.
هذا غيض من فيض من المواقف المشابهة، والتي تحيل الأفراح عادة إلى أتراح، أو إلى ذكرى سيئة تبقى في الذاكرة.
الزواج أمر مشروع ومحبب، والشرع يحث عليه ويرغّب فيه، فعن رسول الله أنه قال: «مَنْ تَزَوَّجَ فَقَدْ أَحْرَزَ نِصْفَ دِينِهِ» «1». وعن الصادق انه قال: «ركعتان يصليهما المتزوج أفضل من سبعين ركعة يصليها أعزب» «2». وقال جلّ شأنه: «وَمِنْ اَياتِهِ أن خَلَقَلَكُم مِنْ أنفُسِكُم أزواجاً لِتَسكنوا إليها وَجَعَلَ بَيْنكُم مَوَدّةٌ وَرحمَة» «3». لذا فالزواج نعمة تستحق الشكر للمنعم جلّ شأنه، ولا يكون الشكر بإزعاج الآخرين وإقلاقهم وترويعهم، ولا بإلحاق الأذى ببعضهم.
الاحتفال بالعرس أمر جميل والفرحة يتمناها كل أحد، لكن المفرقعات تفسد تلك الفرحة وتكون مصدر ازعاج أكبر بكثير من استخدامها كتعبير عن الفرحة. وللأسف أن البعض اعتبرها تعبيرا عن شدة فرحه، في الوقت الذي لا يمكن أن تكون الفرحة من خلال هذه الأعمال المزعجة والمؤذية. اضافة الى أن للمفرقعات تأثيرات صحية سلبية، حيث تساهم الشظايا والرماد المتساقط بأذيّة المشاركين في الزفة، عدا عن الروائح الكريهة التي تصدر عنها.
ان ظاهرة المفرقعات في الأعراس ظاهرة سلبية، ولها تأثيراتها الصحية والاجتماعية. وبرغم خطورتها الا أنها موجودة ومنتشرة دون رقيب وبشكل واضح، ويستطيع من يريد اقتنائها أن يجدها بكل سهولة.
وأنا أعدّ لكتابة هذا المقال التقيت ببعض الشباب وتحدثت معهم حول الظاهرة، وركزت على معرفة المبالغ التي تصرف لهذه المفرقعات، فتوصلت بعد أن قاربْت الاجابات الى أن العرس الواحد يكلّف قبل 8 سنوات تقريبا من 5000 الى 6000 ريالٍ فيما يكلّف حاليا من 1500 الى 2000 ريالٍ فقط. والمقذوفة الواحدة تكلّف قبل 8 سنوات 150 ريالاً فيما تكلّف الآن 45 ريالاً فقط. مما يدلل على سهولة الحصول عليها وتوفرها وأنها في متناول أيدي الجميع تقريباً، وهو أمر خطير جداً، ويجب على الجهات المسؤولة محاسبة من يوفر هذه المفرقعات ومن يدخلها للبلد، خاصة وأنها تستخدم بشكل سيء وبطريقة لا يقرها دين ولا خلق. الى جانب أنها تبذير مالي وحمل اضافي لا داعي له يتحمّله العريس.
ان استخدام هذه المفرقعات والألعاب النارية أثناء الزفة وخاصة بين البيوت والأحياء - سيما الأحياء القديمة حيث يحس قاطنوها بصدى صوت المفرقعات وهو يهز جدران البيت وكأنه يريد اقتلاعها - تلحق الأذى بالآخرين، وتقوّض راحتهم وسكينتهم، وتدخل الرعب الى قلوبهم، فتروّع كبار السن وترهب الأطفال النائمين وتخوفهم وتجعلهم يبكون ويصرخون مما يترك عليهم آثاراً نفسية. وحقيقة يحز في النفس ما يعانيه هؤلاء الصغار وهم يسمعون هذا الكم الهائل من المفرقعات، ويهرولون للاختباء خوفا من أصواتها. ولنا أن نتخيل كيف سيكون شعور من يطلق هذه المفرقعات لو أن ابنه الصغير يستيقظ مذعورا من هذه الأصوات التي هو سببها. ولنتصور أيضاً حجم الازعاج الذي تسببه هذه المفرقعات للمنازل المجاورة خاصة وانها تضم مسنين وأطفال. المسنين الذين لا قدرة لهم على تحمل هذه الأصوات المؤذية والتي تطرد النوم من عيونهم المتعبة، والأطفال الذين يبحثون عن الهدوء لإغلاق جفونهم وهم مطمئنون.
يروي لي زوج شقيقتي أنه في احدى ليالي الأسبوع وليست ليلة اجازة - حيث أصبحت الأعراس تقام طوال أيام الأسبوع ولا تقتصر كما السابق على ليالي الخميس والجمعة - كان يجلس في شقته يتابع التلفزيون في هدوء بعد أن نام أبناؤه وزوجته. فجأة واذا به يسمع أصوات اطلاق مفرقعات، وعندما تبيّن الخبر اتضح أنها صادرة عن عرس لأحد أبناء البلدة. هذه الأصوات أفزعت ابنه الصغير والذي أخذ يبكي ويصرخ وتمسّك بأبيه رافضا الابتعاد عنه. وما أن هدّأ من روعه الا والباب يطرق، واذا بجدته أتته خائفة من تلك الأصوات العالية، فكان في حيرة من أمره، وهو يحاول تهدئة الجميع واعادة السكينة والهدوء اليهم. وقد ظل ابنه يعاني لفترة من تبعات هذا الموقف. كل ذلك بسبب المفرقعات وأصواتها العالية، والتي لم تراع حقوق الناس في الهدوء والراحة.
يقول الله سبحانه وتعالى: «فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُم مَن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَنْ أَغْرَقْنَا... » «4». الآيات الكريمة والروايات الشريفة تنهى عن الصوت المرتفع وتنادي بخفض الصوت، ونحن هنا نمارس اطلاق الأصوات، وأيةِ أصوات؟ فهي تخيف وتروّع وتزعج كل من تصل إلى سمعه. ولذا تعد هذه الأصوات أحد مصادر التلوث السمعي. فهل نتعظ؟!
وكما أن هناك زفّة مسائية للعريس مع نهاية احتفال العرس، هناك زفّة قبلها قد تكون عصراً أو مع الغروب، يمتطي فيها المعرس وأقاربه وأصدقائه سياراتهم، حيث تحيط السيارات بسيارة العريس المزيّنة ويبدؤون بالتجوال في الشوارع ذهابا وايابا، دون مراعاة لمستخدمي الطريق سواء كانوا سائقين أو راجلين، ودون مراعاة لمشاغل الناس وارتباطاتهم.
وتسير الزفّة أو موكب الفرح هذا على مهل وببطء شديد بغرض التقاط الصور، وترافقه أصوات أبواق السيارات العالية التي تطلق جميعها في وقت واحد وبشكل مستمر، مما ينتج عنه فوضى غير مبررة، وزحام يولّد المزيد من الإزعاج. وللأسف أن بعض من يشاركون في الزفّة لا يراعون أخطار الحوادث، فيجلسون على عتبة نوافذ السيارات التي تتمايل يميناً وشمالاً مما قد يعرضهم للسقوط في أية لحظة.
وبرغم العقوبات التي فرضتها وزارة الداخلية ممثلة في ادارة المرور الا أن هذه الظاهرة لا زالت موجودة. ففي نظام المرور بالمملكة، تقول المادة 50/1/17: «لا يجوز التعلق بأجزاء المركبة الخارجية أو الصعود الى المركبة أو النزول منها وهي في حالة السير» «5». ومن ضمن المخالفات التي يتضمنها نظام المرور ويحاسب عليها «التباطؤ في السير على نحو يعرقل الحركة» «6». وهو ما يحدث في مواكب الأعراس.
وتتسبب الزفّة في قطع الطريق بفعل عدد السيارات الكثيرة التي ترافق سيارة العريس، مما يؤخر مرتادي الطريق عن أعمالهم ويعيق وصولهم الى وجهاتهم التي يقصدونها بسهولة ويسر، ويضطرهم للانتظار وقتا طويلا حتى يمر الموكب. وهذا الوضع قد يؤدي بالبعض الى اطلاق اللعنات والسباب. خاصة وأن الطريق حق عام للجميع، لا يحق لفئة أن تتفرد به. والأدهى أن يصل الحال ببعضهم الى أن يغلق الطريق، ليبدأ بعدها بالاستعراض في سلوك غير حضاري ومرفوض، بل هو سلوك مستفز للآخرين.
وهنا أيضاً مادة في نظام المرور بالمملكة رقم 50/1/31 تقول: «لا يجوز استعمال المركبات في مواكب خاصة أو على شكل تجمعات إلا بإذن مسبق من ادارة المرور، ولا يجوز السماح بهذه التجمعات والمواكب إذا أدت إلى إقلاق راحة العامة وخاصة ليلاً» «7». النظام موجود لكنه يحتاج إلى تفعيل أكثر وإلى متابعة.
يذكر لي أحد أقربائي وهو سائق لحافلة خاصة. أنه كان يوماً في طريقه لإيصال احدى المريضات للمستشفى. وبعد أن وصل للإشارة الضوئية، شاهد أمامه زفّة لعريس وقد أقفل من فيها الطريق حتى قبيل الاشارة التالية. وبدلاً من أن يصل للمستشفى في 10 دقائق كما اعتاد، اضطر للانتظار قرابة الساعة دون أن ينفَض مولد الزفة. فأخذ يحاول المرور من بين السيارات المتوقفة، يستعطفهم لإفساح المجال له للمرور لأن لديه حالة إسعافيه، حتى تمكن من الوصول لبداية طريق فرعي، ومنه سلك طريقا آخر بعيدا عن هدفه، وسار مسافة طويلة حتى تمكن من الوصول للمستشفى وأسعف من معه.
أحد أصدقاء أخي كان من ضمن الشباب في زفة أحد العرسان، وكان يتقدم المسيرة. وصل للإشارة الضوئية فتوقف. جاءه شاب آخر من الخلف فقال له: «لم توقفت؟ تحرك فنحن في زفة» فرد عليه: «ألا ترى الاشارة حمراء؟ » فابتسم قائلاً: «أراها حمراء». ثم أشار لمن خلفه بأن تحركوا، متجاهلاً أن التمادي في مثل هذه السلوكيات واللامبالاة قد يؤدي الى ما لا يحمد عقباه. تحرك الجميع قاطعين الإشارة، فكان أن تلقتهم سيارة من الشارع المقابل حيث الإشارة خضراء، فاصطدمت بثلاث سيارات كانت احداها سيارة صديق أخي، والذي حرّم منذ ذلك اليوم أن يسير في زفّة.
جميل أن نفرح، لكن يجب أن لا نلزم الآخرين بمشاركتنا الفرحة قسراً وجبراً بتصرفاتنا هذه. قديماً كان العرس يقام وفق عادات وتقاليد تراعي الشرع والعرف، ويسير بشكل هادئ ورزين. لكن غالبية أعراس اليوم باتت تسبب لنا القلق والازعاج. ولا ندري إلى متى يتم إحياء هذه الأعراس بأنانية ولا مبالاة بالآخرين؟ معتبرين بأن هذه حرية شخصية، متناسين بأن حرية الإنسان تنتهي عندما تبدأ حرية الآخر.
ولعل أهم خطوة لعلاج هذه الظاهرة «المفرقعات/الزفّة» أو التخلص منها هي الوعي بخطورتها وعدم التشجيع عليها، ووقوف أهالي العريس والعروسة أمام اقامتها بكل ما يستطيعون. بجانب تكثيف برامج التوعية عبر الوسائل الاعلامية ووسائل التواصل الاجتماعي ذات التأثير الفعال، حيث يقع على عاتقها الدور المهم في تعزيز التوعية، وتبيان سلبيات هذه السلوكيات غير المقبولة لهذه الظاهرة، والحقيقة ان وسائل الاعلام مقصّرة في هذا الجانب.
كما أن هناك دور هام جدا للأسرة وللمدرسة في توعية شبابنا. الأسرة بتوعية أبنائها وتوجيههم ومتابعتهم وردعهم لو اضطر الأمر. والمدرسة باستغلال حصص النشاط والاذاعة المدرسية وكل الوسائل التربوية المتاحة، مع أهمية التفاعل بين المدرسة ومحيطها الاجتماعي.
ولا بد أن يكون هناك دور أمني حازم تجاه من يمارس هذه السلوكيات. وكما يقع على وزارة التربية والتعليم ويقع على الجهات الأمنية من مسؤولية في هذا الاطار، كذلك يقع على وزارة الصحة بالتعريف بما لديها من وسائل بخطورة المفرقعات وتأثيراتها السلبية.
وهنا يتحمل أئمة المساجد والخطباء الكثير من المسؤولية تجاه توضيح أضرار وسلبيات ما يقوم به الشباب، والسعي بكل جهدهم للقضاء عليها، وتوضيح موقف الشرع المقدس منها، حيث يظل المنبر هو صاحب التأثير الاعلامي والتوعوي على أفراد المجتمع سيما الأب والشاب. وتبقى المسؤولية المشتركة على الجميع نحو تثقيف المجتمع بخطورة هذه الممارسات، حتى نكون مجتمعا متحضرا يتلذذ بأفراحه.
وتقبلوا تحياتي،،