... وجاء عصر الوصايات الأنيقة
كثيرٌ هم الذين يحرصون على أن يكونوا مفهومين من قبل الآخرين أكثر من حرصهم على أن يكونوا محبوبين ، لأن الفهم يمكن أن يُولِّد المحبة ، بينما ليس بوسع الحب أن يفضي إلى الفهم في كل الأحوال . بل في كثير من الأحيان تُرتكب حماقات شتى تحت عناوين مختلفة بإسم الحب ، والحرص على تحقيق مصلحة من نُحب لأننا أعلم منه بما ينفعه وما يضره ، ونحن بهذا الشكل قد منحنا أنفسنا صلاحية ممارسة ( الوصاية الأنيقة ) عليه رغماً عنه ما دام أن ذلك يصب في مصلحته ( كما نراها نحن ) لا كما يرغب هو !!
ومهما كانت الصلة بيننا وبين من يمارس أو لنقل يفرض تلك الوصاية ، ومهما كانت منطلقاته ودوافعه إيجابية فإن مجرد قبولنا وترحيبنا بها وبصاحبها يمهد الطريق أمامه لأن يسوِّغ لنفسه المضي قدما في فرض الوصايات واحدة تلو الأخرى دون أن نحرك ساكناً من هنا أو هناك حيث تمسي العلاقة الفوقية هي النمط المسيطر على طبيعة الإتصال فيما بيننا سواء أكنا أفراداً أم جماعات فالحال سيّان في المقدمة والنتيجة ، وفي الممارسة والإستحسان .
لست أدري ما الذي يجعل بعضاً من الناس تقديم أنفسهم كلقمة سائغة في فم آخرين يلوكونهم كما يشاؤون بالرغم من الإمكانيات الشخصية ، والمهارات الذاتية التي يتمتعون بها !! هل هو الزهد في تحقيق الذات ؟ أو عدم معرفة الذات ؟ أم عدم تقديرها ؟ ( وهنا الطامة الكبرى ) أو الإرتهان لجميل ما قدمه ذلك الشخص لهم وما يزالون يسددون بكل أريحية فواتير ذلك المعروف الذي كسبهم به حتى اللحظة ؟
أرجو الإنتباه أيها الأحبة فلست أدعو هنا إلى نكران الجميل ، أو القيام بقطع اليد التي إمتدت إلينا لتساعدنا ، أو التقليل من شأن من ساعد وساند وآزر بأي شكل كان ، فحاشا لله أن أسمح لنفسي بالرقص على مشاعر الآخرين الإنسانية ، أو النيل من صيرورتهم العاطفية ، أو تدمير شبكة علاقاتهم الإجتماعية ، بل كل ما أرمي إليه هو تسليط الضوء على غياب حالة الوعي عند البعض ، والدعوة إلى التفريق بين أن نقدر من أسدى إلينا بمعروفٍ ونثمن موقفه المحمود معنا ، وبين الإرتهان لإرادة ووصاية صاحب المعروف ما حيينا ، لأن ذلك بكل وضوح لا يعتبر عنواناً للوفاء بل يدخل ضمن دائرة ( الإبتزاز العاطفي ) الذي لا يؤسس للمودة بل للعكس .
ولكي أكون منصفاً ومتوازناً في الطرح ، فإنني لا أجزم بأن من أسدى إلينا (بالمنفعة) هو من يفرض علينا وصايته بالضرورة ، ويستحسن إنصياعنا لأوامره ، والسير في ركابه ، والتلفع بشخصيته ، والعيش تحت مظلته ، فهناك الكثير من ( الكرماء النبلاء) في المجتمع من يستكثر حتى شكره ، ناهيك عن رفضه الإمتنان لفعله ، أو تعظيم معروفه ، لأنه يرى في ذلك واجباً شرعياً ملزماً له نحو أفراد مجتمعه . وأبناء وطنه وإن بعدوا ، إنما ربما نحن الذين نقوم بتسليمه رغماً عنه مفاتيح قراراتنا وقيادة زمام أمورنا ، وإبراز مستوى وهننا وضعفنا ، في حضرته وفي غيابه ، ظناً منا بأن ذلك يعكس وفاءنا له ، ويبرهن على إنسانيتنا ، وأصالتنا ، وطيب معدننا ، وذكائنا العاطفي ، وحُسن تربيتنا .... !!
إنني أخشى ما أخشاه أن يكون البعض منا قد غرق حتى شعر رأسه ( دون أن يدري ) في وحل ( نظرية التبادل Exchange theory) التي من أهم روادها : جورج هومانز ،( G. Homans ) ، وبيتر بلاو ( Peter blau ) والتي ذكرتها الدكتورة ( حكمت العرابي ) في كتابها : ( النظريات المعاصرة في علم الإجتماع ) والتي قامت إستناداً على الإتجاه السلوكي في علم النفس ، ويتم إستخدام تصورات هذه النظرية في تفسير بعض الظواهر الإجتماعية وأهمها :
1- عدم المساواة بين الناس في المجتمع .
2- قيام السلطة .
3- الصراع الإجتماعي .
وتقوم هذه النظرية على فكرة أساسية هي : ( أن السلوك الإجتماعي هو عبارة عن عملية تبادل للسلع ) تقوم على : التكلفة ، والربح ، والعرض ، والطلب ، سواء كانت هذه السلع مادية ، أو سلعاً معنوية مثل : المكانة الإجتماعية والجاه والقوة ، والسلطة والنفوذ والسطوة ، فالأشخاص الذين يعطون الكثير إلى غيرهم يحاولون الحصول من هؤلاء على أكثر مما قدموه لهم ( إلاَّ ما رحم ربي ) كما أن هؤلاء الأشخاص الذين يحصلون من غيرهم على أكثر مما قدموه هم لهم يقعون تحت ( ضغوط قاهرة ) تدفعهم لأن يعطون الكثير لمن يدينون لهم بالعطاء الزائد ومشاعر الإمتنان لتميل عملية التأثير بين هؤلاء إلى التوازن حتى يتحقق في ضوء ذلك التوازن نوعاً من الإستقرار في عملية التبادل بين الناس من خلال إدراك كل طرف أهمية الخدمات التي يؤديها إليه الطرف الآخر .
وسواء كانت ( الوصايات الأنيقة ) مفروضة بصورة قاهرة من الخارج ، أو منطلقة طواعية من الداخل ( الخيار الذاتي ) فإنها تمثل حالة سلبية في العلاقات الإجتماعية ، وتهدد الشعور بالراحة والإستقرار ، لا سيما عندما يتناول الناس فيما ببينهم علاقات إجتماعية غير متكافئة . وتظهر هذه الفروق بين الناس في القوة والسلطة ، فإذا كان لطرف ما القدرة على أن يتحكم ويسيطر فيما يحتاجه الطرف الآخر ، فإن هذا الطرف الآخر يتناول علاقته الإجتماعية بشكل يمثل المثوبة ( للطرف الأقوى ) ، وهذه المثوبة تبدو في خضوع الضعيف للقوي ، ومسايرته ، والإمتثال لأمره مهما كان . والذوبان في شخصيته . والدفاع عن مصالحه ، وتكثير سواد اتباعه في عيون منافسيه ، وتعظيم إنجازاته وإن صغُرت ، والمواظبة اليومية على حضور مجلسه ، والتفاني في خدمته ، وتشويه صورة خصومه ما استطاع لذلك سبيلا .
ولكنَّ الإقرار بمشروعية ممارسة هذه الوصاية التي يبتغيها الطرف القوي ، ويتقبلها الطرف الضعيف بكل رضا ورحابة صدر طالما وجد فيها أنها تحقق الفائدة والمثوبة للطرف القوي ، وطالما أنه ما يزال بحاجة للإستعانة بإمكانياته ، وضرورة إستمرار تدفق إكرامياته المشروطة ذوقاً . لن يتحقق إلى الأبد لا سيما إذا ما منَّ الله على الطرف الضعيف بفيضٍ من نعمه المادية والمعنوية التي لا تُحصى وجعله في غنى عن المستغلين من عباده ، أو إستيقظ من غفلته وطفح به الكيل وقرر إعادة الإعتبار إلى ذاته رغم إلحاح وضغط حاجته والتي تتحول في نظره – والحال كهذه – إلى شهوة يجب قمعها وردها إلى عقالها . قال الإمام علي : " من عزَّت عليه نفسه ، هانت عليه شهواته " وفقكم الله لما يحبه ويرضاه . والسلام على أهل السلام .