«بيب.. بيب»
استيقظ قبل صلاة الصبح بنصف ساعة كعادته. تهيأ للصلاة، وبعد رفع الأذان بدأ ممارسة طقوسه العبادية بين صلاة ودعاء وترتيل للقرآن، حتى أشرقت الشمس. عندها عاد لسريره، ووضع رأسه على وسادته طلباً للنوم. برهة قصيرة استغرق بعدها في نومه.
بعد أقلّ من ساعة واذا بأبواق سيارات «باصات» النقل المدرسي الخصوصي «الميكروباص» قد بدأت عزفها اليومي المزعج «بيب.. بيب»، لتنبيه طلاب وطالبات المدارس بأن سائقهم ينتظر كي يوصلهم لمدارسهم. بوق يليه بوق ثانٍ، فبوق لسيارة ثالثة، والعدد لا ينتهي. وكل بوق يحدث صوتاً ونغمة تختلف عن الآخر، إمعاناً في الإزعاج!
صديقنا الحاج أحمد أصيب - مع تكرار حالة العصبية التي تولّدت لديه جرّاء هذا المشهد اليومي، ونتيجة لحرمانه من النوم - بارتفاع في مستوى الكولسترول، الذي أدى بدوره الى ارتفاع في ضغط الدم. نعم يا سادة.. ارتفاع ضغط الدم، بجانب الصداع المستمر.
حاول الحاج أحمد - والذي تجاوزت سنين عمره الخمسين عاماً - في أحد الأيام أن يجد حلاً لهذه المشكلة المزمنة، بحيث لا تؤثر على أصحاب الباصات في أرزاقهم، وتريح قاطني المنازل من هذا الإزعاج اليومي. فاختار يوماً مناسباً له، وقرر أن لا ينام بعد فراغه من عبادته اليومية وينتظر قدوم الباصات. وفعلاً وقف أمام باب منزله، وبمجرد أن بدأ توافد تلك الحافلات الصغيرة على الحي لاصطحاب الطلاب، والحافلات الأخرى لاصطحاب الطالبات، قام من فوره ووقف بجانب احداها. بدأ بالسلام على السائق، ثم طلب أن يتحدث معه. فرد عليه السائق السلام، ثم أكمل قائلاً: «اسمح لي حجي أنا الآن لا أستطيع الحديث معك. لدّي عمل، وحديثي معك سيؤخر الطلاب عن الوصول الى مدارسهم في الوقت المحدد، وأنت لا ترضى ذلك».
أرخى الحاج أحمد عينيه في الأرض، ثم رفعها وقال له: «حسناً يا بني سأنتظرك ظهراً عندما تعود لإيصال الطلاب إلى منازلهم». فوافق السائق على اقتراح الحاج أحمد وهو يمنّي نفسه بالاتفاق على مشوار يدخل لجيبه مبلغاً جيّداً.
عاد الحاج الى منزله. تناول وجبة افطاره، وذهب لسريره كي ينام، وكي يكون جاهزاً قبل حلول موعده مع السائق. لكنه كالعادة ظل فترة يتقلّب على سريره حتى انتهت الباصات من جولتها الصباحية، والتي ترافقها فيها أصوات المنبهات المزعجة.
عند الموعد كان الحاج أحمد ينتظر السائق على باب منزله. ما ان شاهده حتى أسرع الخطى نحو الباص وأوقفه. بعد تبادل التحية بينهما، سأل الحاج أحمد السائق: «لماذا يا ولدي هذا الازعاج اليومي منك ومن زملائك السائقين صباحاً وظهراً، ألا ترى بأن هناك كباراً في السن بحاجة الى النوم، ومرضى بحاجة الى الراحة، وأطفالاً بحاجة الى الهدوء؟ ما تفعلوه من اطلاق الأبواق العالية والمزعجة من سياراتكم يؤذينا». رد عليه السائق بعد أن ظل لدقائق صامتاً كي يستوعب ما قاله الحاج، والذي كان بعيداً عن ما كان ينتظر سماعه، فقال له: «ماذا تريدنا أن نفعل؟ لا سبيل لنا للحاق بطابور المدرسة سوى هذه الطريقة، وعداها لن نتمكن من ذلك».
فسأله الحاج: «لماذا لا تتمكن؟ » فأجابه السائق: «لأنني كمثال لدي 30 طالباً في الباص، ولو وقفت وطرقت الباب أو جرس المنزل لكل طالب فلن أكمل عملي حتى لو بدأته بعد أذان الفجر. ثم هل توافق أنت كولي أمرٍ أن أمرّ على ابنك عند الخامسة فجراً مثلاً؟ » فقال له: «لا طبعاً. ولكن لم هذا العدد الكبير والباص لا يتحمل أكثر من نصفه». أجابه السائق: «هذا رزقي.. رزقي يا حجي. وأنا على الله وعلى هذا العمل». فقال له الحاج: «هذا لا يعني أن تزعج الناس وتقلقهم وتؤذيهم، بل عليك أن تعمل وأنت تراعي الآخرين». ثم سأله: «لماذا لا تتفق مع أولياء الأمور بأن يجهزوا أبنائهم مبكراً، وبالتالي يكفي رنة جرس صغيرة أو بوق خفيف لاستدعاء الطلاب، ومن لا يخرج في موعده تذهب عنه وليس عليك ملامة؟ » أجابه السائق: «جربت تطبيق ما قلته، لكن من التزم منهم قليل. ثم أنني لو تركت الطالب الذي لم يخرج في وقته وذهبت عنه فسأخسره، لأن والده سوف يبحث له عن سائق آخر ينتظره حتى يخرج من البيت، ولو تأخر الطالب فسيضغط السائق على منبه السيارة أكثر من مرة، وبصوت عال حتى يخرج. هل تريدني أن أخسر الطلاب، ويذهب رزقي لسائقين آخرين؟ ».
هنا لم يجد الحاج أحمد بداً من إيقاف الحديث، لكنه طلب منه أن يكف وزملائه عن اطلاق أبواق السيارات ذات الأصوات العالية، والمزعجة، والمنفّرة. ثم دعا له وودّعه.
وما يحدث ظهراً لدى انصراف الطلاب، يتجاوز في إزعاجه وخطورته ما يحدث صباحاً. فتجد سائقي الباصات والسائقين الخصوصيين وأولياء الأمور يقفون بشكل عشوائي، كل ينتظر ليصطحب من جاء لأجله، فتتداخل أصوات أبواق السيارات وأصوات الطلاب والمنتظرين والمارّة، فيحدث الزحام والإرباك، وربما يصل الأمر - وهذه الحال - إلى حوادث وإصابات بعضها قد يكون خطيراً.
ظاهرة استخدام أبواق السيارات لا تقتصر على فترتي الصباح والظهر الخاصتين بالمدارس، فالأحياء تعاني أيضاً. لا يمكن أن نقول بأن هناك حيا هادئا الآن. فالسيارات الخصوصية تسهم أيضاً في مواصلة الإزعاج بأبواقها النشاز، فذاك ينادي صاحبه الذي ارتبط معه بموعد عن طريق بوق السيارة، وقد يطيل في استخدام البوق لو تأخر في النزول اليه، وهو يفعل ذلك برغم أن كلاهما لديه هاتف جوال. وذاك يلقي التحية على صديقه من خلال بوق السيارة. وثالث قد رفع صوت المسجّل متعمّداً حتى آخره، وهو يسير بسيارته فاتحاً نوافذها، وبين الفينة والأخرى يطلق البوق عالياً ليلفت نظر المارة ويظهر استمتاعه بما يفعل، فهو ضامن أن لا حسيب ولا رقيب عليه. ولعلّه يستمع لشيء لا يفهمه، ولكنه يتلذذ بمضايقة الناس. وقد كانت هذه ظاهرة واختفت، لكنها بدأت تعود للأسف.
وآخر يصرّ على اطلاق بوق سيارته للفت انتباه صديق له دون مراعاة الآخرين، لا بل قد ينوّع صوت البوق ليصدر أكثر من نغمة. وكأن بوق السيارة أصبح لغة حوار بين الناس. و.. و.. و.. مواقف لا تنتهي من فصول مسرحية الإزعاج. وهذه الظاهرة - وهي استخدام أبواق السيارات داخل الأحياء السكنية والإصرار عليها - تؤذي المريض، وتوقظ الطفل الذي تعبت أمه من أجل أن ينام، وتفزع الموظف الذي عاد من عمله ليخلد للراحة، وتؤثّر على الحالة النفسية والعصبية للمرأة الحامل وبالتالي على جنينها.
في نظام المرور بالمملكة، باب قواعد السير، تقول المادة 50/1/22:
«لإدارة المرور تقييد استعمال المنبهات الصوتية داخل المناطق المأهولة أو منعها كليا في بعض المناطق السكنية أو جزئيا في أوقات الراحة والسكون وذلك فيما عدا حالات الطوارئ». «1» لكن ومع وجود هذه المادة في النظام الا أنه لا يشدد على تطبيقها.
وللأسف أن البعض ممن يمارس هذا الازعاج وتدمير الأعصاب لا يراعي انه بجوار دار للعبادة أو مستشفى أو مدرسة، ولا يراعي وقت ممارسته نهاراً كان أم ليلاً. دون أن يكترث الى أن الليل هو وقت راحة الناس، وازعاجهم فيه سلب لحقوقهم بالاستمتاع بهدوئه.
ان من أوجد هذا البوق في السيارة لم يكن هدفه أن يُستخدم بهذا الشكل الفض والمزعج. وأعتقد أنه لم يَتصور أن يحدث ذلك. كما أن هدفه لم يكن أبداً أداة للتسلية واللهو والعبث، فبوق السيارة وجد لينبه الآخرين ويحذرهم لخطر قد يتم تلافيه، أو يرشدهم لأمر هام، أو يتم استخدامه من قبل سيارات الاسعاف والمطافئ.
وفي نظام المرور بالمملكة، باب قواعد السير أيضاً، تقول المادة 50/1/23:
«لا يجوز استعمال أجهزة التنبيه إلا في حالة الضرورة لتنبيه مستعملي الطريق إما إلى اقتراب المركبة أو إلى خطر ناشئ عنها أو خطر يتهددها، كما لا يجوز استعمال المنبهات الصوتية بطريقة تزعج المارة أو تقلق راحة الجمهور، ولا يجوز أن يكون المنبه الصوتي متعدد النغمات أو أن يصدر أنغاما أو أصواتا أخرى لا تتفق مع الغرض من أجهزة التنبيه». «2».
ان استخدام البوق بهذه الطريقة الفوضوية والمستفزة لا يدل على التحضر. وانما يعكس سلوك وأخلاق هذا الشخص وطبيعة حياته ووعيه القاصر، وافتقاده للموجه والقدوة. وهو بجانب أقرانه المماثلين له سببوا لنا تلوثاً سمعياً وصوتياً من خلال هذه الأصوات والضوضاء التي يحدثونها. كما أن نمط الحياة العصرية السريعة ساهم كذلك في هذا التلوث، وترك تأثيره على نفسية وعقلية من يمارس هذا الازعاج، وأدى الى زيادة انفعاله وتوتره وعصبيته. وقد أشار القرآن الكريم الى ما يفعله الصوت العالي بالإنسان، فقال جلّ شأنه: «وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين». «3».
في السويد مثلاً لا يُستخدم بوق السيارة الا في الأمور الطارئة، والحالات القصوى التي تتعلق بحياة الانسان، ولو أكتشف لاحقاً بأن الحالة التي استدعت السائق لاستخدام بوق السيارة «المنبه» لا تستحق، عندها تحرر له مخالفة لأنه تسبب في ازعاج الآخرين.
وفي اليابان يتم مخالفة من يطلق بوق السيارة بعد الساعة العاشرة بشكل يزعج الآخرين بغرامة مالية. وفي كندا يعاقب من يستخدم بوق السيارة في الأماكن العامة أو قرب المستشفيات بعقوبة قد تصل للسجن.
إن الاستخدام الصحيح والمسؤول لأبواق السيارات احدى أهم قواعد الأخلاق والذوق والقيم، كما أنه مؤشر كبير على مستوى الوعي والتحضر لدى أبناء المجتمع، وانعكاسا لسلوكياتهم، وهو دليل على الشعور بالمسؤولية تجاه الآخرين.
في رواية عن ابن عباس.. قال أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب : «معاشـر النـاس استشعـروا الخشيـة وأميتوا الأصوات وتجلببوا بالسكينة». «4». أميتوا الأصوات.. هنا محلّ الشاهد، وهو في قبال الصوت العالي والمرتفع جداً حد الازعاج.
إن أي تصرف مزعج يصدر من أحد الأفراد يجب أن يقيّم أولاً من قبل الشخص نفسه، ثم يقيّم من المجتمع في مرحلة تالية، وخصوصاً ما يصدر منه في الشارع الذي هو ملك للجميع، كاستخدامه لبوق السيارة أو رفع صوت المذياع عالياً، مما يؤدي الى ازعاج الناس. والتوعية هنا مهمة جداً للتغلّب على هذا الأمر النشاز.
وللقضاء على هذه الظاهرة أو الحد منها على أقل تقدير، لابد من تطبيق نظام المرور - المشار له أعلاه - بحزم، والعمل على ايقاف المركبة وصاحبها في حال تكرر منه هذا الفعل. اضافة الى التوعية الشاملة عبر جميع وسائل الإعلام، وتبيان خطورة هذا الأمر على صحة الانسان. كما يجب على الشخص الممارس لهذا الازعاج أن يضع نفسه مكان الآخرين، وأجزم عندها أنه سيستشعر مدى حجم الخطأ الذي يرتكبه بحقهم، وأنه لو كان مكانهم فلن يرضى بممارسة هذا السلوك الخاطئ، بل سيصل الى قناعة بأن احترامه للآخرين وعدم ازعاجهم أمر محبب ويثاب عليه.
ولا بد هنا من تعاون وتكامل بين البيت والمدرسة وعلماء الدين والخطباء والمجتمع والجهات الرسمية المعنية بهذا الشأن لمواجهة هذه الظاهرة، وخلق بيئة صحية خالية من التلوث الصوتي، وبيئة أخلاقية اجتماعية أفضل لمن يمارسون هذا الفعل، والذين يحتاجون احتضان المجتمع لهم، حتى نحصل في الأخير على مجتمع ايجابي متميز.
وتقبلوا تحياتي،،