أرجوك إفهمني
من جملة الحقوق البديهية التي يجب أن يتمتع بها الإنسان ( والتي ترتقي لأن تصبح حرمات لا حقوق ) حقه في التعبير وحقه في التنقل وحقه في المعرفة والحصول على المعلومة ، وحقه في اختيار دينه وفكره ومنهجه في الحياة ، وحقه أيضاً في الدفاع عن نفسه وتمكينه من توضيح ذاته وإزالة التشوهات التي تلحق به من هنا أو هناك ، ومقاومة الإشاعات الكاذبة ، والأخبار المغرضة التي يتم تلفيقها عليه أو إلصاقها به ، وصد محاولات العزل والإقصاء أو الإغتيال الإجتماعي الذي ينتابه بطرق مختلفة .
هذه الحقوق ( أقصد الحرمات ) كما يسميها المستشار الدكتور : علي أبو جريشه في كتابه ( حرمات لا حقوق ) باتت عرضة للتهميش والتشويه مع تعاظم الدور الغير منضبط للماكينات الإعلامية التي تكدر صفو فضاءنا ، والمتعددة الأشكال والوظائف والأغراض . والتي تتفنن في التشويه وقلب الحقائق ، والقدرة الهائلة على التنميط وصناعة الجهل وتغييب الوعي ، وزرع الفتن ، والإبداع في أساليب الخداع والتضليل ، والطغيان في طرق التدليس والتزييف التي تخطف الأبصار وتذهب الألباب . وإستقطاب المتحدثين المأجورين الذين يساهمون بإطروحاتهم العفنة والسامة ، وحممهم الملتهبة التي يقذفونها من حناجرهم الساخطة في إكتمال رداءة الصورة المشوهة إبتداءً .
ولا يقف هذا الطمس المتعمد للحقوق عند حق الفرد ، أو الجماعة ، بل يتمادى إلى الزحف المبرمج على حقوق أمة بعينها من خلال إشاعة التنميط المغرض بين الأمم والشعوب في ظل تجاهل الحق الأصيل . أليس من حق الإنسان أن يكون مفهوماً ؟ فلماذا إذن يتم اغتيال فكره ودينه وإلصاق صور نمطية مقصودة به من خلال الإعلام الموجه ، والرسوم المسيئة ، والفن المغرض وتعمد صناعة الجهل ، وممارسة كل أصناف الخداع وأساليب التضليل ، وبث الأباطيل .
إن صيانة وحماية حق الإنسان في أن يكون مفهوماً من الآخرين ، وضمان الالتزام بهذا الحق لكل بني البشر على إختلاف أجناسهم وأديانهم وألوانهم وعقائدهم في ظل عولمة المعرفة والاتصالات ، وتحول العالم إلى قرية صغيرة ، وضخامة وسائل الإعلام والتأثير، يعتبر فرض عين على كل الساسة ، والمثقفين ، والمفكرين ، والإعلاميين ، وأصحاب الماكينات الإعلامية الخاصة والمهاجرة هروباً من لوائح المتابعة والرقابة والضبط والإلتزام وليتسنى لها ممارسة ( فوضى الكلام ) في بحبوحة وسعة من الحرية الغير مسؤولة ولا المنضبطة بغية إستقطاب المشاهدين الذين يحلو لهم الرقص على المقابر ويستمتعون – دون خجل - بأجواء التفاخر والتباغض والتنافر والتناحر .
كوني أطلب أن أكون مفهوماً من الآخرين لا يعني بالضرورة أن يوافقونني على ما أعتقد أو ما أفكر ، بل الإعتراف بحقي في أن أكون كما أريد ، ومسئولا أمام خالقي عن كل ما يصدر عني من قول أو فعل أو عمل . قال تعالى : ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾ (38) سورة المدثر طالما لم يصدر عني ما يشير إلى الكفر البواح . أو يهدد السِّلم الإجتماعي ، أو يسيئ إلى الآخرين ، أو يجرح إعتبارهم بشكل أو بآخر .
ليس من حقي ، كما أنه ليس من حق الآخرين تحديد الطريقة المثلى التي يجب عليَّ أن أسير على منوالها ، لأنهم فقط يرون فيها الصواب . لأن في هذا تبجح كبير ، ونزعة فرعونية ظالمة ومستبدة لا تتناسب وحقوق الإنسان المعتبرة ، والتي باتت خبزاً عالميا ً مُصان ( من لجان حماية المستهلك ) فالفهم يقتضي الإحترام المتبادل ، وبناء العلاقات القائمة على التواصل والحوار بدلاً من ممارسة القمع والسيطرة والتحكم وفرض الإرادات . وكما يقول الشاعر الكبير المرحوم ( السيد مصطفى جمال الدين ) :
الرأي تصقلهُ العقولُ تخالفت نظراً ، وقد يصديه عقلٌ مُفردُ
من هنا فإن ( الإختلاف في الرأي لا يُفسد للود قضية ) بل الذي يفسد الود ، ويجلب المرارة الصامتة والصد ، هو المجاملة القاتلة ، والإنسياق وراء كل ناعق وزاعق دون علم أو دراية ، أو لطلب رضا العبد على حساب العلاقة مع الرب ( لا سمح الله ) وحتى وإن رضينا بأهمية الإختلاف فإن ذلك ليس كافياً بل يجب علينا أن نتوج ذلك القبول بالعمل على فهم عوامل الإختلاف ، وتفهُم موقف من نختلف معه بصفته حقاً مقدساً وليس خاضعاً لقبولنا أو رفضنا له أو مزاجنا .
وإذا ما ذهبنا بالحديث بعيداً عن الفهم كحق مكتسب لكل إنسان ، فإن من القضايا التي لا يجب أن يغفل عنها البعض حين الحديث عن حوار الحضارات قضية ( الفهم كأساس ضروري للحوار) فلا يُعقل أن يكون هنالك حوار ذو معنى وفائدة بين أطراف لا يفهم بعضها الآخر، فلا بد من الفهم قبل الحوار، وإلاَّ تحول هذا الحوار إلى ( حوار الطرشان ) كما يقولون . بيد أن الفهم لا يعني القبول بكل آراء الآخر ومسلماته كما ذُكِرَ في بداية المقال . إنما هو سبيل لمعرفة الطريقة التي يفكر بها الآخر وخلفيته التاريخية وروافده الأخلاقية ومن البديهي في سياق الحديث عن الفهم كأساس للحوار تصفيته من المغالطات التاريخية والإعلامية التي تشوه صور الشعوب وتعيق الحوار الفاعل والبناء . فما بالك بمتطلبات الحوار مع من تتقاسم معهم الماء والهواء ، ويجمعك وإياهم مصيرٌ مشترك ، أليس أولى بك وبهم أن يفهم كل منكما الآخر . لا أن يحاصره ويحرجه ويدحرجه ليخرجه ، لأنه لا يريد أن يفهمه ، ولا يتيح له فرصة الفهم أو التفهيم . عجبي !! تحياتي .