دخِّن عليها تنجلي ...
الضحك كما يقول : ( ماك دوجال ) حالة انفعالية ذات عدوى حقيقية أي أنه ينتقل بسهولة بين الناس فان وجود شخص واحد كثير الضحك بين مجموعة من الناس سرعان ما ينتقل لهم انفعاله بالضحك وهو ما يُطلق عليه ( نظام الحشد أو القطيع ) . إن الانسان الذي يضحك من الدنيا ثم من نفسه بعد ذلك هو إنسان قد فهم الحياة وغاص فيها حتى النخاع وأدرك إدراكا حقيقيا أن الحياة لا تساوي كل هذا الحزن والألم ، ولقد أثبتت الأبحاث أن الانسان الضاحك هو أطول عمرا وأفضل صحة وشبابا وحيوية من هذا الذي يعيش حياته متجهما عابسا لا تكاد الأحزان تفارقه ولا تعرف الإبتسامة سبيلها الى شفتيه البته ، والشيء الذي يدعو إلى الإستغراب أن بعض الناس – هدانا الله وإياهم – يرون في ذلك السلوك مؤشراً على تحقيق النضج ، والرزانة ، وإكتمال العقل وغيرها من العلامات الدالة على الرجولة والإنضباط .
ويقول الدكتور ( ريمون مودي ) صاحب كتاب ( الشفاء بالضحك ) انه شاهد أثناء ممارسته الطب عددا كبيرا من المرضى وقد شفوا لأنهم عرفوا أن يجابهوا مرضهم بنفسية ساخرة مازحة وانطلاقا من معاينة هؤلاء المرضى أخذ يتساءل عن مفعول الضحك الشافي ؟ وهو يعني بمفعول الضحك الشافي ليس فقط الضحك العادي والابتسام بل مجابهة الحياة بروح ساخرة من المصيبة ضاحكة من تقلبات الأيام إلا أن ما كان يثير دهشته هو أن أساتذته في معهد الطب كانوا يطلبون منه دوما أن يفحص المريض ويدرس أعراض مرضه الجسدية دون أن يكلفوه بأن يدرس نفسية المريض لجهة قدرتها على الضحك من الحياة واستعدادها للمرح والابتسام فلا ريب أن هناك علاقة بين الصحة الجسدية وبين ذهنية المريض ومعنوياته .
وفي القرن التاسع قال الفيلسوف البريطاني) هربرت سبنسر ) إن الضحك يؤدي الى تفريغ أو ازالة التوتر العصبي , ونظرية فرويد في الضحك تقترب من هذه النظرية . كما أن التجارب العلمية الحديثة أثبتت أن هناك علاقة بين الروح الساخرة الظريفة وبين تركيبة الانسان الجسدية . وأيضا تتنافى السخرية الظريفة كما يتنافى الضحك والفرح مع الغضب وحب الانتقام والمعاقبة . فان جميع الأهل يعرفون أنه يستحيل عليهم معاقبة أطفالهم إذا اضحكوا من حماقة ارتكبها هؤلاء الأطفال ، وكثيرا ما تفادى ذوو السخرية الظريفة المشاكل والعنف بظرفهم الساخر .
وإذا ما إنتقلنا إلى ثقافتنا الإسلامية الرصينة ، والتي تمثل مرجعيتنا الأعلى في القول والعمل ، فإن الدين الإسلامي الحنيف لا يكتفي بالحث على الإبتسامة فحسب ، بل إنه يكافئ صاحبها ، ويرفعها إلى درجة عالية عند الباري عز وجل ، ويجعلها في وزنها وقيمتها كالصدقات في ميزان الأعمال ، فكما جاء في الأثر : ( وتبسمك في وجه أخيك صدقة ) .
ولعلني أستحضر في هذا السياق بيتين من الشعر كانا مكتوبين في روزنامة التقويم الهجري لذلك العام أهداهما لي صديقي العزيز ( أبو راجي ) منذ أكثر من ( 27 ) عاماً وما زلت أرددهما حتى الساعة كلما مررت بموقف حرج يجعلني في ورطة هما :
هوِّن النــفسَ بالسلو عليها لا تكن جــالبَ الهمومَ إليها
فـإذا مسـك الزمـــانُ بضـرٍ لا تكن أنتَ والزمانُ عليـها
والسلو أيها الأحبة يقتضي الإبتسامة التي تؤدي بالضرورة إلى إنشراح الصدر ، وإستبدال العسر باليسر ، وإنكشاف الغم ، وذهاب الهم . لأنه كما يقول أحد الخبراء في علم السلوك : إنه إذا مررنا بمشكلة ما فيجب علينا عدم الإنفعال والإرتباك إن كان يوجد لها حل . فإن لم يكن هناك حلٌ لها يلوح في الأفق ، فلا يجب علينا الإرتباك أيضاً لأنه لا يوجد لها حل أصلاً . وإن كثرة الضجر والنواح على عدم وجود حلول لتلك المشكلة لن يؤدي إطلاقاً إلى ولادة الحل السحري الذي نتمناه .
قالت لي إحداهن : إنني دفعت الكثير من صحتي وسعادتي في ما مضى ( وعانيت كثيراً من القولون العصبي وآثاره الحارقة ) نتيجة لتركيزي على الأمور أكثر مما يجب ، ومثاليتي الزائدة التي كانت تزعج في أغلب الأحيان من أعيش معهم سواء في البيت ، أو في العمل ، أو في محيط الأصدقاء ، وعندما تدربت بحماس على فنون السخرية الإيجابية ، وإدارة الفوضى ، والأزمات ، والذات ، والعلاقات ، تحسنت صحتي وحالتي النفسية ، وأصبحت أكثر قابلية للحياة ، وتحمُّل مشاكلها التي لن تنتهي ، كما زادت نسبة إيماني بعالم الغيب والألطاف ، وأصبحت أردد هذا الدعاء ( ولعل الذي أبطأ عني هو خيرٌ لي لعلمك بعاقبة الأمور ) كلما شق علي أمر ما ، أو إستعصى مناله بعدما بذلت أقصى جهدي في سبيله . وتعلمت السخرية من ذاتي بذاتي ( لأنها كانت بدينة ) بدلاً من إجترار الآلام والحسرات والغرق في بحر الأمنيات .
كان أفلاطون يظن أن الضحك من خصائص السوقة ومميزاتهم , واليوم وبعد أن ظهر في علم النفس ما يسمى بالطب (السيكوسومائي ) وهو نوع من الطب يدرس العلاقة النفسية , وآثارها على الجسم . نقول بكل الحق كم كان أفلاطون مخطئا في زعمه .. إن الضحك ظاهرة نفسية يمكنها أن تُنسي الإنسان متاعب الحياة اليومية وتجاوزها مخففة من الإجهاد والتعب العصبي ، كما أن لها وظائف ايجابية في العلاج النفسي وفي الشفاء من بعض الآلام النفسية والعصبية بل وحتى في سبيل تحمل المصائب وعاديات الزمن ...... والحياة اليومية تثبت أننا نقبل ونفضل الشخص الطلق المحيا البشوش فالضاحك إنسان يوحي بالتفاؤل والأمل .
وأخيرا وليس آخرا للسخرية الظريفة الباسمة وظيفة اجتماعية فان نكتة أو دعابة ظريفة قد تسهل العلاقة مع غريب أو تعيد علاقة مقطوعة مع حبيب . أو تجلب حلاً لم يكن في الحسبان . فهل تؤمن بذلك يا عزيزي وستقول من الآن : دخِّن عليها تنجلي ؟ أرجو ذلك من أجل صحتك ليس إلاَّ .