بين القراءة والكتابة والبحث العلمي
إن غرض الكتابة، ليس هو مجرد إنتاج آلاف الكتب والمجلدات، كما أن غرض القراءة ليس هو مجرد التباهي وفرد العضلات، بكمٍ هائلٍ من أسماء الكتب التي قرأناها، وبتكرار المصطلحات الواردة فيها. بل إن تلك هي المصيبة القاصمة، التي ابتليت بها سلوكيات الكتابة والقراءة في بعض المجتمعات والأمم.
ومع أن القراءة والكتابة دائماً - كما أعتقد - من الظواهر الإيجابية، التي يجب أن لا تعاب، لكن مجتمعاتنا العربية والإسلامية، أثبتت لنا بما لا يدع مجالاً للشك، أن القراءة والكتابة يمكن أن تتحول أيضاً من فرص وأدوات إنقاذ للأمة، لظواهر سلبية مريضة وخطيرة، وذلك بغرق أبناء الأمة وكثيرٍ من نخبها غالباً، في بحورٍ متلاطمة من الوهم والدجل والإستعراض، وبيع وشراء ذلك الغثاء والوهم.
إن كثرة الخرافة والأساطير والوهم والثرثرات ... الخ، بمختلف أنواعها السياسية والدينية والإجتماعية والإقتصادية ... الخ، هي قراءةً وكتابةً من أخطر الأمراض، التي يمكن أن تمارس أي أمة، ترويجها في عالم القراءة والكتابة، فتخسر بذلك الكثير من وعي وجهد أبنائها.
وهذا النمط من الكتابة العبثية والكتابة الخرافية، وقراءة ذلك العبط أيضاً واستنساخه وتكراره من جهة أخرى والتفاخر به، والتي هي سلوكيات مريضة بلا شك، إنما هي واقعاً نتاج طبيعي من نتاجات تخلف الأمة، وحالات مريضة تكشف واقعنا المأزوم حتى اليوم.
لكننا في النهاية، لسنا هنا لنكون، ضد الكتابة، ولا ضد القراءة، رغم مأزقها الحالي. لأننا نعلم حقاً، أن القراءة والكتابة والثقافة، حتى في أبسط معانيها وصورها، كفيلة بلا شك، بأن تخرج لنا من رحم ذلك التخلف الذي تعيشه الأمة، حتى في عادات القراءة والكتابة، بعض الواعين في النهاية، وبعض المتنورين من أبناء الأمة، ولو في أبسط صور الوعي والتنور أقلاً.
ولكننا رغم ذلك، فلن نغفل أيضاً، حاجات الأمة للتحول من نمط تكرار تلك القراءات والكتابات الفارغة الكمية والإستعراضية، لنمط آخر من الجهد، هو الجهد النوعي الجاد والمثمر والبناء.
إننا في الحقيقة بحاجة ماسة لتعزيز جهود البحث العلمي في مختلف جوانب المعرفة: السياسية والإقتصادية والإجتماعية والأدبية والفلسفية والتاريخية ... الخ. فذلك هو الكفيل حقاً بأن يخرج لنا أفكاراً حقيقية ومعارف ذات قيمة ... الخ، ومنتجات معرفية جديدة يسودها الإبداع والتأمل والتعمق، بعيدة عن ثرثرات وترهات ذلك التخلف الذي نعيشه، ونلوكه يومياً.
والبحث العلمي هنا يعني بلا شك: الإستقراء والرصد والبحث والتنقيب والتحليل والمقارنة والتصنيف والإستنتاج ...الخ. وهذا ما لا يعرفه وما لا يمارسه الكثيرون منا، عند ممارسة القراءة / أو الكتابة، أو كلاهما.
إن هذا النمط من القراءة والكتابة البحثية المشار له هنا، هو في الحقيقة ما يجب تكثيره وتعزيزه اليوم، وهو بلا شك ما تحتاجه هذه الأمة المصابة بمرض الوهم والخرافة والعبثية، حتى عند ممارستها لعادتي القراءة والكتابة ... وهذا يحتاج من مجتمعاتنا لمشاريع ومبادرات جماعية جادة تضاف للجهود البحثية الفردية التي تحتاج للتكثير إبتداءً ... والسلام.