ماذا نأكل ؟ وكيف نأكل ؟
دعاني منذ لقاءنا الأول بمعرض الكتاب بالرياض المنصرم لتناول العشاء مع أسرته بمدينة الخبر الساحلية شرق السعودية ، فتواعدنا، وتقابلنا .. فدخلت بيتهم ، وإذا أمامي أبيه وعمه وإخوته ، وجدته العجوز الحادة النظر ، والتي تجلس على كرسي متحرك ، وبعد السلام والمصافحة أجلسوني معهم على طاولة الغداء ، كأينا لهم .
لقد كان اللقاء أكثر من كونه دعوة تعارف أو أعجاب ، فأنا من استفاد أولاً وأخيراً من هذا اللقاء ، وبكل النواحي الإنسانية والثقافية والاجتماعية ، فبإشارة من الجدة لحفيدها ، دفع الكرسي وأعطاني الضوء الأخضر لاصطحابهما ، فأخذتني الجدة بجولة فنية رائعة داخل البيت مع الشرح لرؤية اللوحات الفنية وبعض الأعمال والمنحوتات التي تملأ كل أرجاء البيت ، ثم عدت إدراجي إلي أول نقطة .
لقد عُرضت وُطرحت وسُردت عدة مواضيع على الطاولة ، ثم وقعتُ بعض مؤلفاتي التي بحوزتهم . لكن ما شد انتباهي ، وجعلني أعيش بدوامة مع نفسي ، هو نوعية انتقاء أصناف الطعام المختصرة أمامي ، وطريقة أكلهم المتواضعة المريحة بدون تكلف ، وإن كل شخص يأكل ما يشتهيه وينتقيه ، والأجمل هو البساطة في إعداد وجبة العشاء ، إذ لم أشاهد استنفار للجيش العربي وهيئة الأمم المتحدة بقدوم الضيف ، حتى أني عشت لحظات مع الماضي ، وأخذني التفكير نحو الأطباق المتناثرة بالأرض في الولائم التي حظرتها بمجتمعنا ، وصحون أجدادي أيام قريش أو أهل الكهف، والخروف المسكين المسجى بذيله ورأسه ، وعيونه تنظر لنا بطلب الشفقة والرحمة .
بصراحة ، وجدت نفسي إنسان حقيقي وأنا معهم ، فأمامنا خمس سلطانيات شفافة ، وكل واحدة بها صنف ولون مختلف ، وكأنني أمام تحف فنية بإحدى المعارض ، ونوعين من العصير الطازج ، وهذا هو العشاء فقط ! وأختر ما تريد ، وأنا كنت أراقب كيف تتحرك الأيادي ، وكيف يأكلون ويلعقون ويسكبون ويطلبون باستئذان ، وكل هذا مسبوق بكلمة " لو سمحت " ، إنها ليست رسميات كما يظن البعض ، لكن هو شعور بالاحترام ! فنطقت الجدة العجوز : ماهو موضوعكم اليوم يا أولاد ؟ فقال أحدهم ، نناقش موضوع قيادة المرأة القادم ، وماهي الإيجابيات والسلبيات ، وماهي الشكاوي والتعليقات والاقتراحات ، فدخلنا بنقاش مابين مؤيد ومعارض ، لكن برحابة صدر مع إبتسامة ، فبدأنا الاستمتاع بالأكل مع الحوار والنقاش المفيد .
الملفت للانتباه إنه عندما يتكلم أحدهم ، ينصت الجميع ، وأنا معهم ، وكأنني برحلة تدريب " ماذا تأكل وكيف تأكل " نعم سادتي ، لقد اكتشفت أن بالمجتمع ناس غير ، وأفكار غير ، وطريقة غير ، وأسلوب غير، هنا تأثرت كثيراً وزادت ثقتي بنفسي ، فإنهم يجتمعون لملء البطن فقط ، بل صلة رحم ، وتفكير ، وانصهار ، وارتباط ، وتشاور ، ولتحريك مياه العلاقة الاجتماعية الراكدة بين أعضاء الأسرة ، وعدة أمور لا أستطيع حصرها . لقد اكتشفت أن للأكل ثقافة كباقي الثقافات ، وإن لكل شيء فن وذوق ولون وأخلاق ، فالأكل ثقافة ، والكلام ثقافة ، والإنصات ثقافة ، والعلاقة العاطفية بين الزوجين ثقافة ، حتى العلاقة مع الله ومع بني البشر ثقافة ، والثقافة هنا تعني اللباقة والفن والكيفية والطريقة المثلى للاستمتاع بالشيء وبلوغ شبق نكهته .. لكن بذرابة وعناية وسلاسة وعناية ، وبطريقة محترمة ، وبأعلى المقاييس الإنسانية الجميلة ، ولا أعني بالثقافة الأكل بالشوكة والسكين ، أو الأنفة والتكلف والرسميات الفندقية .
كنت أحاول أقلدهم أثناء الأكل ، وأتعلم منهم ، فأخبرني الأب إن هذه هي عادتهم منذ أيام أبيه ، ومنذ كانوا يسكنون مدينة جدة ، وهكذا رباهم حتى وصلت الطريقة للأبناء ، وقال أيضاً : لكل بيت ثقافة خاصة بالأكل ، سواء مع الأسرة نفسها أو مع الضيوف ، فعندنا مثلاً ، نستقبل الضيف ببعض المكسرات الخفيفة والشاي وبخور العود فقط ، وإذا كانت الدعوة وجبة عشاء كهذه ، وكما ترى بعينيك ، نعرض نفس الأكل مع الزيادة لشخص أو أكثر ، وكل شخص يأكل وحسب معدته ، وما يزيد من الطعام نرجعه بالثلاجة ، ولا داعي للإسراف والتبذير ، وهذا ما أمر به الله .
صدق الأب ، هذا ما أمر الله به ورسوله الكريم ، فلماذا الإصرار على العادات السيئة في الولائم مع احترامي لمن يخالفني الرأي ، وإنها عادات ما انزل الله بها من سلطان ، فربما ورثناها من القبلية أو من عادات أجدادنا كنوع من الكرم ، وأنا أقول لمن يوافقني ، دعها لأصحاب القصور ولشاه بندر التجار ، وكن أقرب إلي إنسانيتك ، وأنا مقتنع إن قلبك أقرب إلي الله وطاعته من رمي نعمة الله في القمامة ، ولا تنسى إن هذا الزمن صعب جداً ، والحالة متقشفة في أغلب البلدان ، والمصاريف كثيرة، ولا داعي لصناديق الفواكه من أجل ضيف وزوجته ، ولا داعي لصحون تكفي لإشباع قوم عاد وثمود من أجل عدة أشخاص ، ولا داعي لمشروع التسمين وتربية الكروش بالمناسبات الأسرية والعزاء والليالي الملاح ، ولننسى أيام أبا جهل ، ولندفن مقولة " هذا ما وجدنا عليه أباءنا وأجدادنا "
عوداً على جلوسي معهم على طاولة العشاء ، أعترف أني تطبعت من طبعهم ، وأعترف أني تأثرت بهم ، وهذا فقط من معاشرة ساعتين زمان ، فتمنيت أن تتفشى تلك الثقافة بين أفراد المجتمع ، وياليت تعود أيام الألفة والمحبة والجمعة بين أفراد الأسرة ، وأن يترك كل فرد الجهاز الذي بيده ، ويجتمعون حول طاولة واحدة ، وياليت نتعلم ماذا نقدم للضيف الزائر، وإنه لن يموت ولن ينتحر لوقدمنا له ماعندنا وما تجود به أنفسنا ، وأحببت أن أخبركم إن أخر مائدة ضيافة جلست أمامها بالعيد قبل أيام ، كانت من الشاي والقهوة والتمر والحلويات بأنواعها ، فوالله أني لم أفرح بما رأيت واستقبلت ، وإنهم لم يردوا الجميل ، وإني أصبحت كالفيل أو البقرة التي تجتر كل دقيقة .. وأتمنى أن تصل الرسالة لهم : " شكراً لأنكم ملأتم معدتي ، وأنا ملأت عقولكم "