الطاغوت والمنافقون.. الحذر الخاسر والحذر الرابح (3)
ومن أشكال الحذر المذموم: حذر الكفار والطواغيت من حَمَلَة الحق والرسالة الإلهية؛ خوفا من فقد بعض متع الدنيا الزائلة وزوال سلطانهم وملكهم ومآله للرساليين؛ كالحذر الصادر من فرعون وحاشيته من نبي الله موسى (عليه السلام) ومن آمن معه من بني إسرائيل، كما في قوله تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُم مّتَّبَعُونَ أمر الله موسى (عليه السلام) أن يتحرك بقومه ليلا؛ لأن فرعون سيطاردهم* فَأَرْسَلَ فِرْعَونُ فِي الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ أرسل فرعون في طلب القوات من المدن؛ لتجتمع عنده لمحاربة موسى (عليه السلام) ومن آمن معه* إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ قال فرعون: إن موسى ومن معه أقلية وسنهزمهم بسهولة)* وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَآئِظُونَ لأننا سنخسر العبيد والخدم، فمن سيبني لنا القصور ويخدمنا فيها؟! ومن سيزرع ويسقي مزارعنا؟! * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ من أن تقوى هذه الأقلية وتصبح قادرة على الإطاحة بملكنا وغنيمة سلطاننا وقصورنا وحدائقنا وبساتيننا وثرواتنا﴾ (الشعراء /52-56.
ولكن هل سينجح فرعون وأتباعه في اجتناب ما يحذروه؟
يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ﴾ (القصص/5- 6) لقد وعد الله المؤمنين الصادقين أن يُمكِّن لهم في الأرض ويجعل لهم الغلبة، ولكن بشرط أن يجتنبوا الطاغوت ويجاهدوه؛ ليدخلوا في حقيقة التوحيد الخالصة، وينالوا العزة والكرامة، والرضا الإلهي في الدنيا والآخرة.
ماذا حدث لفرعون وأتباعه حين كفر به بنو إسرائيل وأطاعوا القائد الرباني موسى (عليه السلام)؟
قال تعالى: ﴿فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِّن جَنّاتٍ وَعُيُونٍ* وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ* كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرائيلَ﴾ (الشعراء/57-59). لقد سلب الله من فرعون وهامان وجنودهما كل ما يملكوا من حدائق وجنات وعيون وأموال وكنوز وسلطة وأعطاها لمن كان يحذر منهم فرعون وهامان، لكنهم لم يفقدوا نعيم الدنيا ورفعتها وحسب، بل فقدوا حياتهم غرقا وسيغرقون في الآخرة أيضا، كما في قوله تعالى: ﴿فَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ* وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ* وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ* ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآَْخَرِينَ﴾ ( الشعراء/63-66).
لقد نجا أهل الإيمان (موسى وأتباعه) وهلك أهل الكفر (فرعون وأتباعه). لماذا؟ قال تعالى: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾ (القصص/ 4).
وما هي عاقبة من يصلح، وعاقبة من يفسد؟
يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الاْخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الاَْرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ (القصص 83).
إن هذه الآية تدل على أن كل من يسعى للاستعلاء بجميع أنواعه، وللفساد في الأرض، ولمحاربة المؤمنين المجاهدين؛ فإنه خارج عن دائرة الإيمان وداخل في دائرة الإفساد، ومصيره الفشل والخسران المبين؛ وإن استخدم جميع وسائل الحذر، أما المؤمنون المجاهدون من أهل الحق والتقوى؛ فمصيرهم النجاح والفلاح الأبدي.
وجاء في هذا المعنى في حديث ولادة الحجة (عليه السلام) الذي سنورد الشاهد منه: ...فجئت بسيدي عليه السلام وهو في الخرقة، ففعل به كفعلته الأولى، ثمَّ أدلى لسانه في فيه كأنَّه يغذِّيه لبناً أو عسلاً، ثمَّ قال: تكلم يا بنيَّ. فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وثنّى بالصلاة على محمّد، وعلى أمير المؤمنين، وعلى الأئمّة الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين حتى وقف على أبيه عليه السلام، ثمَّ تلا هذه الآية: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ﴾ كمال الدين/ الصدوق: 424 - 426/ باب 42/ ح 1.
وأيضا كما في مجمع البيان: عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنه كان يمشي في الأسواق وحده وهو دالٌ يرشد الضال ويعين الضعيف، ويمر بالبيّاع والبقال، فيفتح عليه القرآن ويقرأ: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الاَْخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الاَْرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ (القصص 83) ويقول: "نزلت هذه الآية في أهل العدل والمواضع من الولاة، وأهل القدرة من سائر الناس» مجمع البيان، م:4، ص:347.
- الحكم بما أنزل الله
نستلهم من الرؤية القرآنية: عندما يحذر الإنسان حذرا ممدوحا؛ فهذا يدل على إيمانه. والحذر الممدوح يصدر من الأنبياء والمؤمنين أنفسهم، أو من تحذير الله تعالى لهم، كتحذير الله لنبيه من الضلال؛ بإتباع أهواء وشهوات الفاسقين الذين سيعذبهم الله بذنوبهم، وأن يحكم بغير ما أنزل الله، كما في قوله تعالى: ﴿وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ﴾ (المائدة/49).
وعلى العلماء والمؤمنين التأسي برسول الله في الحكم بما أنزل الله، وعدم الرضوخ لضغوط وأهواء المجتمع؛ لأن هذا التحذير موجه لهم أيضا، وليحذر المجتمع أيضا أن يعمل عمل الفاسقين، فيكون منهم، وعلى الفرد أن يحذر أيضا أن يكون من الكِثرة الفاسقة.
- الحذر من المنافقين
هناك فئة من الناس يتسترون برداء الإيمان؛ ليبثوا سمومهم في المجمتع الإيماني، وهذه الفئة هي أخطر من الكفار؛ لأنهم عدو خفي في حين الكفار عدو ظاهر ومعروف، وهؤلاء هم المنافقون، وهم العدو الحقيقي والأخطر كما في قوله تعالى: ﴿ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾. ( المنافقون/ 4).
أكثر ما يبرز المنافقون حين يتصدى المجاهدون للعمل الجهادي؛ فحين يقف الجميع -ظاهرا- صفا واحدا في الظروف العادية، تجدهم ينقسمون إلى صفوف مختلفة عند اضطراب الأوضاع؛ فحين ينشط المجاهدون ويقومون بواجبهم الجهادي الإصلاحي؛ فإن ذلك سيرفع من رصيدهم الشعبي، وسيزدادون قوة، وسترتفع مكانتهم في مجتمعهم، وهذا أمر يقض مضجع المنافقين؛ لأنه يهددهم بفقد زعاماتهم وسقوط مكانتهم الاجتماعية؛ لهذا ينشط المنافقون بأعمالهم التخريبية ضد المجاهدين، ويتمثل نشاطهم النفاقي في إنكار القيم الحقة، وتزوير الحقائق، وتشويش المفاهيم، وتثبيط العزائم، وتسخيف المجاهدين.
جاء في تأريخ حرب الأحزاب: أنّه خلال حفر الخندق، وبينما كان المسلمون مشغولين بحفر من الخندق، اصطدموا بقطعة حجر كبيرة صلدة لم يؤثّر فيها أي معول، فأخبروا النّبي (صلى الله عليه وآله) بذلك، فأتى بنفسه إلى الخندق ووقف إلى جنب الصخرة، وأخذ المعول، فضرب الحجر أوّل ضربة قويّة فانصدع قسم منه وسطع منه برق، فكبّر النّبي (صلى الله عليه وآله) وكبّر المسلمون، ثمّ ضرب الحجر ضربة اُخرى فتهشّم قسم آخر وظهر منها برق، فكبّر النّبي وكبّر المسلمون، وأخيراً ضرب النّبي ضربته الثالثة، فتحطّم الباقي من الحجر وسطع برق، فكبّر النّبي (صلى الله عليه وآله) ورفع المسلمون أصواتهم بالتكبير، فسأل سلمان النّبي عن ذلك فقال (صلى الله عليه وآله) «أضاءت الحيرة وقصور كسرى في البرقة الاُولى، وأخبرني جبرئيل أنّ اُمّتي ظاهرة عليها، وأضاء لي في الثّانية القصور الحمر من أرض الشام والروم، وأخبرني أنّ اُمّتي ظاهرة عليها، وأضاء لي في الثالثة قصور صنعاء، وأخبرني أنّ اُمّتي ظاهرة عليها، فأبشروا» فاستبشر المسلمون.
فنظر المنافقون إلى بعضهم وقالوا: ألا تعجبون؟ يعدكم الباطل ويخبركم أنّه ينظر من يثرب إلى الحيرة ومدائن كسرى وأنّها تفتح لكم، وأنتم لا تستطيعون أن تبرزوا؟ فأنزل الله: ﴿وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلاّ غروراً﴾. الكامل لابن الأثير، الجزء 2، صفحة 179.
المنافقون متواجدون في كل زمان وفي كل مكان، وهم أخطر عدو تواجهه الأمة، ومن حمل على عاتقه الإصلاح؛ لأن معارضتهم للأمة وللمصلحين خفية وليست ظاهرة؛ فهم يعيشون بيننا وتربطهم مع المجتمع المؤمن صداقات وقرابات، بل وزعامات أيضا. ولننجح في حذرنا منهم، وفي عدم الوقوع في النفاق أيضا؛ علينا أن نكون على قدر كاف من الوعي الذي يؤهلنا لكشفهم وعدم الوقوع في حبائلهم؛ فعلينا أن نعرف الحق لنعرف أهله، وعلينا أيضا معرفة صفاتهم وأفعالهم التي سأذكر بعضها:
1- السخرية والاستهزاء من القيادات الربانية المجاهدة ومن المؤمنين المجاهدين، ومحاولة إضعافهم وتثبيطهم عن العمل الجهادي.
قال تعالى: ﴿ يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ * وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ ﴾. (التوبة/64-66)
أحد أسباب نزول هذه الآية: هو أنّ مجموعة من المنافقين لما رأوا النّبي وقد تهيّأ للقتال واصطف أمام الأعداء، قال هؤلاء بسخرية: أيظن هذا الرجل أنّه سيفتح حصون الشام الحصينة ويسكن قصورها، إن هذا الشيء محال، فأطلع الله نبيّه على ذلك، فأمر رسول الله أن يسدوا عليهم المنافذ والطرق، ثمّ ناداهم ولامهم وأخبرهم بما قالوا، فاعتذروا بأنّهم إِنّما كانوا يمزحون وأقسموا على ذلك.
2- إظهار الإيمان بألسنتهم، وتكذيبه بقلوبهم.
قال تعالى: ﴿ إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ﴾. (المنافقون/1).
3- يصعب كشف المنافقين؛ لأن من صفاتهم العمل في الخفاء؛ وذلك عن طريق ستر حقيقتهم الفاسدة وراء القسم الكاذب بالله على صدق إيمانهم، قال تعالى: ﴿ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾. (المنافقون/2).
ويتخفون وراء المظاهر الإيمانية الكاذبة؛ فتجدهم يصلون جماعة مع المؤمنين، ويصومون، ويقرؤون دعاء كميل، ويبنون المساجد (كمسجد ضرار)، ويظهرون الأخلاق الحسنة وما شابه... ؛ ليس قربة لله تعالى وإنما رياءا؛ من أجل إلفات أنظار الناس نحوهم ووضع الموانع والعراقيل أمام هدايتهم لقيم الحق، ومن غير أن يشعر المؤمنون بذلك.
قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ * أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾. (التوبة/107-109).
روي في المجمع: أن بني عمرو بن عوف اتخذوا مسجد قباء وبعثوا إلى رسول الله أن يأتيهم، فأتاهم وصلَّى فيهم، فحسدهم جماعة من المنافقين من بني غنم بن عوف فقالوا: نبني مسجداً فنصلي فيه ولا نحضر جماعة محمد، وكانوا اثني عشر رجلاً، وقيل: خمسة عشر رجلاً، منهم: ثعلبة بن حاطب، ومعتب بن قشير، ونبتل بن الحارث، فبنوا مسجداً إلى جنب مسجد قباء.
ولما بنوه أتوا رسول الله وهو يتجهز إلى تبوك فقالوا: يا رسول الله إنا بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة، والليلة الممطرة والليلة الشاتية، وإنا نحب أن تأتينا فتصلي فيه لنا وتدعو بالبركة، فقال : إني على جناح سفر ولو قدمنا أتيناكم إن شاء الله فصلَّينا لكم فيه، فلما انصرف رسول الله من تبوك نزلت عليه الآية في شأن المسجد: ﴿والذين اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً وتفريقاً...﴾.
قال: فوجَّه رسول الله عند قدومه من تبوك عاصم بن عوف العجلاني ومالك بن الدخشم، وكان مالك من بني عمرو بن عوف فقال لهما: انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه وحرّقاه، وروي أنه بعث عمار بن ياسر فحرَّقه، وأمر بأن يتخذ كناسة تلقى فيها الجيف.
4- لهم مظهر جميل يثير الإعجاب.
قال تعالى: ﴿ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ ﴾. (المنافقون/4).
5- يتميزون بفصاحة اللسان والقدرة على الإقناع والتأثير على الآخرين حتى على النبي نفسه، وذلك قبل فضحهم من قبل الله تعالى؛ فما بالك بنا كيف لا ننخدع بهم؟!
قال تعالى: ﴿ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ﴾. (المنافقون/4).
روى بعض المفسّرين في صفة رئيس المنافقين (عبد الله بن أُبي) «كان عبد الله بن اُبي رجلا جسيماً صبيحاً فصيحاً ذلق اللسان، وقوم من المنافقين في مثل صفته، وهم رؤساء المدينة، وكانوا يحضرون مجلس رسول الله فيستندون فيه، ولهم جهارة المناظرة وفصاحة الألسن، فكان النبي ومن حضر يعجبون بهياكلهم ويسمعون إلى كلامهم».
6- رغم مظهرهم الخارجي الجميل وفصاحة لسانهم، إلا أن أرواحهم خواء من الإيمان والإرادة، ومن التوكل والاعتماد على الله، ولا يخضعون لمنطق الحق؛ فهم كالخشب اليابس المسنَّد على الجدران لا إرادة لديه ولا فائدة منه.
قال تعالى: ﴿ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ ﴾. (المنافقون/4).
7- بسبب تآمرهم السري على الإسلام، والقيادات الربانية، والمؤمنين الصادقين؛ فإنهم في قلق دائم من انكشاف مؤامراتهم.
قال تعالى: ﴿ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ﴾. (المنافقون/4).
8- الاستكبار على القيادات الربانية لدرجة أن منعهم استكبارهم من التوبة والعدول عن باطلهم.
قال تعالى: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ ﴾. (المنافقون/5).
9- الاعتداد بالنفس، حيث يرون أن العزة لهم فقط؛ لهذا هم يستكبرون على المؤمنين وينظرون لهم نظرة احتقار وازدراء ويخططون لإذلالهم.
قال تعالى: ﴿ يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ ﴾. (المنافقون/8).
10- وَصَفَهم الله سبحانه وتعالى بالفسق وعدم الهداية.
قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾. (المنافقون/6).
11- السعي لإضعاف وإسقاط القيادات الربانية، وتفريق المؤمنين من حولها؛ بما تتاح لهم من وسائل تساعدهم على ذلك، ومنها الاقتصادية.
قال تعالى: ﴿ هُمْ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا ﴾. (المنافقون/7).
12- رغم ادعائهم الإيمان؛ فهم يعتقدون أنهم سينالون القدرة والعزة باستقلال عن قدرة الله سبحانه وتعالى، وهذا دليل على جهلهم.
قال تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ ﴾. (المنافقون/7).
وقال تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ ﴾. (المنافقون/8).
13- لا يمانعون المشاركة في الجهاد طالما هو سهل عليهم ويحقق لهم مكاسب شخصية، بل ويحلفون بالله كذبا على أنهم سيجاهدون، ولكن متى ما شق عليهم الجهاد وحف بالمصاعب والمخاطر؛ نكثوا بحلفهم وبدأوا باختلاق الأعذار والتبريرات للتملص منه.
قال تعالى: ﴿ لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمْ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوْ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾. (التوبة/42).
14- يُفسدون على الأنبياء والمجاهدين والمصلحين عملهم ويتوهمونه إصلاحا.
قال تعالى: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ ﴾. (البقرة/11-12).
15- يعتبرون أنفسهم عقلاء وأصحاب رأي سديد وأن التمسك بقيم السماء سفها وغباءا، والعكس هو الصحيح.
قال تعالى: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءَامِنُواْ كَمَآ ءَامَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ ءَامَنَ السُّفَهَآءُ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهآءُ وَلَـكِن لاَّ يَعْلَمُونَ ﴾. (البقرة/13).
16- التلون والتذبذب: إذا لقوا حَمَلة قيم الحق ومبادئ السماء قالوا لهم نحن معكم، وإذا جلسوا جلساتهم السرية مع معارضي القيم والمبادئ السماوية، أظهروا الولاء لهم وقالوا إنما أظهرنا الولاء للمؤمنين سخرية واستهزاءا بهم.
قال تعالى: ﴿ وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ ءَامَنُواْ قَالُواْ ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَـطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ ﴾. (البقرة/14).
17- يستعملون أساليب الخداع والمكر للوصول إلى أهدافهم.
قال تعالى: ﴿ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا ﴾. (البقرة/9).
18- فقدوا كل وسائل إدراك ومعرفة الحق والهدى.
قال تعالى: ﴿ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ ﴾. (البقرة/18).
19- ديدنهم الكذب، والخيانة، ونقض العهود مع المؤمنين والكافرين.
قال تعالى: ﴿ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ﴾. (المنافقون/1).
وقال تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرى إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ ﴾. (الحشر/11-12).
جاء في رواية عن الرّسول : «ثلاث من كنّ فيه كان منافقاً، وإن صام وصلّى وزعم أنّه مسلم: من إذا ائتمن خان، وإذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف».
يتبع...