سياسة تكميم الأفواه
مقدمة:
قال الله تعالى: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ . وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ﴾
لو استعرضنا السيرة العطرة لسيد الكائنات النبي الأكرم صلى الله عليه وآله لرأينا بكل وضوح المنهج المتبع في مواجهة اهواء أصحاب المصالح والمنحرفين عن الخط الرسالي القويم المتمثل في الرسول الأعظم وأهل بيته النجباء، فإننا نرى كيف كانت التوجيهات الربانية له من خلال آيات الذكر الحكم مواكبة المسيرة العملية لبناء الكيان الاسلامي ، فالله عزّ وجلّ اكّد عليه صلى الله عليه وآله رفض كل خطوط المداهنة والمراوغة والاساليب الملتوية في التعاطي مع الناس والمجتمعات.
وهكذا كانت سيرة أمير المؤمنين الامام علي عليه السلام الذي سار على نفس نهج الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وكيف كلفته استقامته وصدقيته ومصداقيته ان ينأى عن الكثير من الناس، وينفضوا من حوله طمعاً بالمصالح والاهواء حتى قال كلمته الشهيرة: «ما ترك لي الحق من صديق».
وشعورا من أمير المؤمنين عليه السلام بخطورة الموقع السياسي وما يستتبعه من مواقف قد تمس أمن الامة ومصيرها فقد انتهج أمير المؤمنين عليه السلام مجموعة من الضوابط ذات البعد الاخلاقي التي تحمي الامة من طغيان السياسة والسياسيين، ولا ريب أن هذه الضوابط هي قيم اسلامية أصيلة ، فان التقوى السياسية التي تعامل بها أمير المؤمنين عليه السلام هي في أعلى مراتب التقوى، وما أحوج الأمة والعالم برمته في هذه الايام الى هذه التقوى.
وهذا كلامه سلام الله عليه بقى مدوياً في وصف معاوية المتلاعب بالدين : " والله ما معاوية بأدهى منّي ، ولكنّه يغدر ويفجر ، ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس ، ولكن كلّ غدرة فجرة ، وكلّ فجرة كفرة ، ولكلّ غادر لواء يعرف به يوم القيامة ، والله ما أُستغفل بالمكيدة ، ولا أُستغمز بالشديدة ".
وقد تسلّم أمير المؤمنين الحكم فواجهته أحداث كبرى جرّت إلى حروب كبار أيضاً ، فقد بُليَ بجبروت الناكثين ، وتهور المارقين ، وطغيان القاسطين ، فعالج ذلك بكل حنكة وتقوى .
وقد كتب إليه عامله على المدينة سهل بن حنيف يخبره أن طائفة من أبنائها يرغبون عنه ، ويتسللون إلى الشام سراً أو علناً ، فكتب إليه الإمام يعزيه عن هؤلاء ، وينهاه عن إرغامهم على الطاعة ، وترك الحرية لهم في التنقل حيث شاءوا فهم أصحاب دنيا ، لا أصحاب دين .
وهذه الاستقامة الصلبة عند الإمام عليه السلام هي التي أبعدت عنه بعض أصحاب الأطماع ، والمتهاونين في الدين الحنيف ، حتى قال عليه السلام : « الضعيف الذليل عندي قويٌ حتى آخذ الحق له ، والقوي العزيز عندي ضعيف ذليل حتى آخذ الحق منه »، والشواهد في سيرته عليه السلام فوق حدّ الاحصاء.
فهذه السيرة العطرة من أطهر الموجودات تدلك على أن هذا الطريق الحق والثبات عليه يحتاج الى إرادة صلبة في مواجهة الذين يقفون في وجهه ، سواء من أصحاب المصالح الدنيوية كالسياسية و(الشهروية) والاطماع (المنصبية) ، أو من أصحاب المصالح الحزبية وغيرهما .
والجدير بالذكر أن هؤلاء الذين قد يتلبسوا بلباس الدين ويضعون حولهم هالات هلامية تتصدع رؤوسهم وتقوم قائمتهم حينما يجدون من يرد عليهم أن ينتقد مواقفهم ويخالفونهم فيما يرمون إليه ، فيسعون بكل جهدهم في مواجهة من يقف في طريقهم ويستخدمون ألوان الردع وأدواته في كم أفواه من يقف في طريقهم ويعرّيهم ، ويثبت عدم جدوى مشاريعهم وانحرافهم عن طريق الصواب.
وهذا لعمري واضحٌ جليٌ في السياسات المتبعة في كل النظم الدكتاتورية ، التي تصب جام غضبها على شعوبها المضطهدة ، ولكم أن تقرأوا كتاب قرأته قبل أكثر من عشرين عاما لمصطفى حجازي بعنوان سيكلوجية الانسان المقهور، لتعلموا مدى قهرية مثل هذه الانظمة للإنسان.
بل ونترقى في هذا ونقول حتى على مستوى الاحزاب والجماعات أو الافراد ، فإنهم ربما عاشوا تحت نير مثل هذه الانظمة وانعكست هذه التصرفات على سلوكياتهم ، بل ومبادئهم في الحياة فصاروا يقنعون أنفسهم بذلك ، ربما نتحدث في الحلقة القادمة عن الأشكال والالوان والأدوات التي يستخدمونها في تكميم الأفواه. والله من وراء القصد.