وقفة مع «قانون القطع»
أكاد أجزم يا عزيزي إن أول ما تبادر إلى ذهنك عندما وقع نظرك الثاقب على عنوان هذا المقال هو جملة الحدود الشرعية المحترمة التي لا شفاعة فيها ولا واسطة والتي منها : قطع يد السارق وغيرها من الأحكام الشرعية المعتبرة التي سنها الدين الإسلامي الحنيف حفاظاً على الأمن الإجتماعي ، وصيانة للنفس البشرية ( الأمارة بالسوء ) وردعها عن الإنجرار وراء الرذيلة وتحفيزها للحرص على الإلتزام بالأخلاق الفاضلة ، وإحترام حقوق الناس .
وربما ذهب تفكير آخر من القراء الكرام إلى قانون قطع أذن الفارين من الخدمة العسكرية الذي تم إقراره بقرار مجلس الوزراء العراقي رقم 115 لعام 1994 م أبان الحرب العراقية الإيرانية (1980 ـ 1988 ) السيئة الذكر ، والذي عاد وألغاه في وقت لاحق ضمن إلغائه لـ 14 قرارا اتخذت بين 1978 و2001 م ، والتي من ضمنها أيضاً إلغاء عقوبة الإعدام لمهربي العملة الأجنبية الساري منذ إندلاع الحرب الضروس بين البلدين والتي استمرت قرابة الثماني سنوات مخلفة وراءها مآسي متعددة لا حصر لها .
وربما ذهب إحساس قارئٌ ثالث إلى حالة قطع العلاقات الدبلوماسية بين دولة وأُخرى إثر مرورها بأزمة سياسية مستعصية أدت إلى مبادرة أحداهما بطرد السفير تلك الدولة التي تم تصنيفها على أنها دولة عدوة ، فترد عليه الدولة الأخرى بالطلب إلى البعثة الدبلوماسية لتلك الدولة ( المبادرة بالطرد ) بمغادرة البلاد فوراً لأن وجودهم بات غير مرغوباً فيه .
وقد يذهب آخر إلى حالة قطع صلة الرحم التي باتت مؤشراً خطيراً في المجتمع بعد ( الهجمة الشرسة للمدنية ) وقفز المجتمعات الحضرية إلى واجهة المشهد الإجتماعي ، والتباعد الفيزيقي بين الأهل والأقارب نتيجة للتوسع العمراني الأفقي المضطرد ( التغير الديموغرافي ) وانحسار نمط الأسرة الممتدة التي كانت المسيطرة على نمط الأسرة العربية المتماسكة لا سيما في المجتمعات القروية والريفية بعد أن إكتسحها نمط ( الأسرة النووية ) ( الزوج + الزوجة + الأبناء ) والتبدل الكبير في المزاج العام لأفراد المجتمع ، وإتساع دائرة الخصوصية ، والحرية الشخصية ، مع إيماني بأن الدنيا لا تزال بخير ولله الحمد .
تمهَّل يا سيدي الكريم فلا هذا ولا ذاك ولا تلك ، فقانون القطع الذي يعنيه المقال ليس له أي علاقة البتة بتلك الأمور الشرعية ، أو الجزائية ، أو الدبلوماسية ، أو العائلية ، إنما هو يخص كل من يسعى إلى التطوير والتحديث سواء على المستوى الفردي ، أو المؤسساتي ، أو الإجتماعي ، أو العائلي . حيث يجب على كل المعنيين والمتطلعين إلى التقدم والنمو والإزدهار ، وكذلك الساعين إلى مواكبة التغيرات المضطردة والمتسارعة ، واللحاق بركب التميز والتطور والإرتقاء أن يقطعوا علاقتهم بالماضي بعد الإفادة من دروسه ، ويفتحوا عيونهم على المستقبل الذي يتطلب إعتماد فكراً وأدوات وآليات جديدة . فلا يمكن لنا أن نخوض حروب الحاضر بأسلحة الماضي ، كما لا يصح لنا أن نحارب في المستقبل بأسلحة الحاضر التي ربما يكون الدهر آنذاك قد أكل عليها وشرب وشبعت من الصدأ وأصبحت من التراث العسكري وليس لها قيمة إلا في المتاحف .
هذه التطلعات نحو المستقبل تقتضي ( تفعيل قانون القطع ) والذي يهدف إلى قطع كافة أشكال العلاقة بمعظم قوالب التفكير والعمل القديمة والتي لم تعد صالحة للحاضر ولا تتطابق مع متطلبات ومواصفات المستقبل ، حيث يشكل الإرتهان لتلك القوالب القديمة عائقاً كبيراً في طريق التقدم وحركة البناء والإعمار بشقيها المادي والبشري . فمقولة ( ليس بالإمكان أبدع مما كان ) هي أحد مؤشرات الوقوع في أسر الماضي وحبائله ، وفقدان الرغبة الصادقة في التحرر من قيوده وأغلالة الغليظة التي لا ترحم .
إن إرادة التغيير تتطلب إبتداءً نقد ما كل ما هو قائم بالفعل ، ونزع غطاء القدسية عنه ، وإخضاعه للغربلة بإستمرار ، وعقلنة العاطفة التي تربطنا به والتي تراكمت في اللاشعور وأصبحت تتحكم في سرعة إيقاع تقدمنا وتصطبغ بها كل مشاريعنا الفردية والمؤسساتية . وكما يقول الحكماء : إذا أردت أن تقتل فكرة فاحتضنها ، أما إذا ما أردت لهذه الفكرة أن تسود وتكون فاعلة ومؤثرة فإخضعها للمراجعة المستمرة والنقد والتحليل سواء منك أو من الآخرين واجعل بين نظرك وبينها ما يمكن تسميته بـ ( البعد البؤري ) لتراها بكل وضوح كما هي بكل محاسنها وعيوبها .
الكثير منا يستصعب الإنفكاك أو الإنقطاع عن شيئ ما كان قد ألفه وتعود عليه ردحاً من الزمن ، حتى بات عنده مجرد الحديث عن إمكانية تغيير ذلك الشيئ أو إعادة النظر فيه من ( التابو ) وهذا بمنتهى الوضوح يتنافى مع مبادئ ومتطلبات التحديث والتطوير .
أليس كذلك يا أعزائي ؟ دمتم في تقدم وإزدهار . ولكم مني المودة والإحترام .