عابـد العمــل !
شغوف بعمله حتى الثمالة ، ويفني عمره من أجل أرضاء شئ ما بداخله ، ودائماً ترجح كفة العمل على كل متطلبات الحياة ، حتى وإن كان في الكفة الثانية ما أمر الله به أن يوصل ، إذ يغادر منزله السادسة صباحاً ، ويتجه إلي مكتبه بالشركة الحكومية العريقة التي أنضم إليها قبل سبع سنوات ، وأخذ على عاتقه أن يخلص لعمله حتى درجة العبادة ، وأن يغلق هو بوابة الشركة الرئيسية ، وحتى بعد خروج رجال الأمن ، الذين اندهشوا من خروجه المتأخر حتى بعد العشاء ! فأخبروا رئيسه ، والذي قال : إن وقت نهاية الدوام حتى الثالثة والنصف عصراً ، وهو ليس مجبراً أن يتأخر بالشركة ، لكن ربما هو يحب العمل بشغف وجنون ، وأنا لا أستطيع أن اجبره أن يترك المكتب ، فسألوه ، وهل يحصل على مقابل العمل الإضافي ، فأجابهم ( لا ) ، لأن العمل ليس بحاجة إلي ذلك ، وهو حر في نفسه !
له من الأبناء صبي في الثامنة ، وصبية بالخامسة ، وعند بداية فصل الدراسة الحالي ، خطط الأبن أن يفاجئ أبيه الذي لا يلتقي به إلا نادراً ، إذ يعود الأب الي البيت بعد العشاء والأبن نائم ، وفي الصباح يخرج ، وهو نائم أيضاً ، ويمر الحال هكذا اليوم تلو الأخر ولا يرى الأبن أباه .
يوما ما ، قرر الأبن تنفيذ المفاجأة ، فذهب وأمه مع السائق إلي السوق الكبير ، واشتروا بعض الحاجيات ، وفي اليوم الثاني ، أتصل بمكتب أبيه ، فسمع صوته ، وضحك فرحاً وهو يكلمه ، فقال لأبيه : بابا ، أرجوك عد اليوم بعد المساء مباشرة ، ارجوك نفذ طلبي، ففكر الأب لحظات، وأجابه بنعم ، فطلب الأبن من أبيه أن يحضر معه أندومي، وبعد إلحاح منه وافق الأب.
لسوء الحظ ، حصل ضغط بمتطلبات العمل ، وأمروا الأب أن ينهيه هذا الأسبوع ، لكن لا يتطلب الأمر البقاء ، فأصبح الأب مخيّر ، فقال في نفسه : أكمل عملي فقط نصف ساعة ، ومع المماطلة ، وإذا بها السابعة بعد العشاء بالتوقيت الشتوي ، فهرول مسرعاً نحو سيارته ، ثم أتجه إلي السوبرماركت لشراء الأندومي.
من جانب آخر ، كان الأبن ينتظر بلهفة عودة الأب ، والدموع تملأن محاجر عينيه ، فظل جالساً عند باب العمارة التي يقطناها ، وهو ينظر يمنة ويسرى ، لعله يلمح سيارة أبيه ، فنفذ الوقت حتى الثامنة ، وإذا بصوت أمه الشجي يناديه من خلفه " هيا أدخل بني ، سيتأخر أبوك كعادته " ، وعند حلول الثامنة ، دخل الأب البيت ، فشاهد الأم حزينة وكأنها بعزاء ! والشقة تملأها الزينة ، من الباب الرئيسي حتى المطبخ ، وفي منتصف البيت ، شاهد طاولة مزينة ومزركشة ، وفوقها كعكة كبيرة وقد كتب عليها أسم الأب مع صورته ، فسأل زوجته : ماذا يحدث هنا ؟؟ ، فقالت : أراد أبنك أن يعملها مفاجأة ، فأول أمس هو يوم عيد ميلادك ، فأصر على أن يعمل حفل يليق بك ، فأشترى الزينة ، ودعى عدد من أصدقائه ، وأنتظروك حتى عجزوا صبراً ، فعادوا إلي بيوتهم ، وجلس هو عند باب العمارة والهدية التي أشتراها لك بين يديه ، وكأنه لم يقطع الأمل بلقاءك ، فتارة ينظر للهدية ، وتارة ينظر للشارع ، لكن هيهات ! هيهات ! ، فعاد أدراجه حزيناً ، وهاهو نائم بغرفته ، فسألها : ولماذا طلب الأندومي ، ويستطيع شراءه معك أو مع السائق ، فقالت وهي تبكي : أخبرني إنه يتمنى أن يأخذه من يدك وأنت داخل البيت .
خطوات الأب متجهة نحو غرفة الأبن ، وشهيق صدره يكاد يسمع من خلفه ، فإذا به يرى أبنه نائماً وبيده الهدية ، فرمى بنفسه نحوه ، وأحتضنه وهو يبكي ، ورمى جهاز الموبايل الذي بيده أرضاً ، فأخذ بضرب رأسه وصفع وجهه وهو يصرخ : " سامحني بني ! سامحني ! ، حرام عليك ، والله لن أعيدها ! ".