في دهاليز الصوم !
عادة وعند ذكر شهر رمضان المبارك ، يتبادر إلي أذهاننا الفائدة الصحية للصوم ، وما يجنيه البدن من بصمات طبية بحتة للصائم ، وكأن الصيام ثلاثون كبسولة دوائية نأخذها طيلة الثلاثون يوماً . وفي أطروحتنا هنا سنناقش ماهية الصوم التكوينية ، وسنتعمق في دهاليز مكنوناته ، لذا أرجوا من القارئ الكريم التمعن بالكلمات والمصطلحات كي يجني ثمار فوئد البحث .
في اللغة صائم ومؤنثه : صائمة ، و هو الإمساك عن شئ والأبتعاد عنه لعدة أيام ، كالأكل ( ياأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أياما معدودات ) ، أو الكلام أو بهما معاً كما صامت مريم بنت عمران، ويحيى بن زكريا ( ع) صوم الصمت ( فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا ) ، والصيام في شهر رمضان هو إمساك عن الشهوات منذ طلوع الفجر، إلى غروب الشمس أو أول دخول الليل على الأختلاف.
قبل الولوج في دهاليز الصوم ، سنتحدث عن الصيام في حياة الشعوب والملل ، فقد كان الصوم ركناً في جميع الأديان السماوية، وأشباه الأديان، وحتى في الشرائع الوثنية، فقد كان قدماء المصريين، والإغريق، والرومان، وسكان ما بين النهرين في العراق، يصومون أياماً مختلفة في العام ، وعرف المصريون القدامى الصيام كفريضة دينية يتقربون بها من أرواح الأموات ، ويعتقدون أن صيام الأحياء يرضي الموتى لحرمانهم من طعام الدنيا ، وفي الوقت نفسه تضامن معهم ، أما العرب فكانوا يصومون أول ثلاثة أيام من كل شهر ، لأنها تفيد البدن وتريح العقل على حد زعمهم .
الصيام في المسيحية هي فترة انقطاع عن الشهوات الجسدية (الطعام) والشهوات الروحية (الاعمال السيئة) ويتم التركيز على الجزء الثاني بشكل أكبر من الجزء الأول ، وأشهر صيامهم هو الصوم الكبير، الذي يقال إنَّ عيسى بن مريم ع كان يصومه .
أما عند اليهود ، فالصوم من الفرائض الأقدم التي عرفتها ديانتهم . ويلاحظ على صومهم انه يتسع إتساعاً مطاطياً ، ويتفرع بتفرع اجتهادات أحبار اليهود حول الفرائض والعبادات الواجبة ، وأن هذه الاجتهادات كانت مرتبطة ارتباط وثيق بالظروف السياسية والاجتماعية التي مر بها اليهود على مر التاريخ ، وبشكل عام ينقسم الصوم عند اليهود إلى فردي شخصي ويسمى صوم الأسر ، ويمارسه اليهودي عند نزوله بمصيبة أو حزن أو اقترافه لخطيئة أو جريمة ، والنوع الآخر صوم جماعي ، ويكون في حالات الكرب والحزن والقلق الجماعي من كارثة أو حرب ما ، كأن يصومون في حالة جني محصول سيئ ، وفي حالة هجوم الدواب ، أو لوقوع زلازل أو أمطار وغيرها من الكوارث .
أما بالنسبة للهندوس ، فإنهم يصومون الأيام الأولى من الأشهر القمرية ، فضلاً عن الصوم في مناسبات وأعياد خاصة بهم ، مثل أعياد "ساراسواتي بوجا" ، والصوم عند الهندوس يعتمد على قدرات الفرد ، وقد يمتد ليوم كامل بأكمله ، حيث يمتنع الهندوس عن الشهوات والأكل فقط ، ويمكنهم شرب الماء أو قدر من الحليب .
الأن سنحاول أن نصيب حجر الزاوية من موضوعنا ، وهو الصوم عندنا نحن المسلمين ، وماهي الحكمة من أرتباط الصيام برؤية هلال الشهر منذ بداية الصيام حتى آخر الشهر ؟ وهل للصيام علاقة بجاذبية القمر وقوة طرد الأرض المركزية ؟
إن الإنسان مسرح دائم لصراع لايهدأ بين الجسد والروح ، والشهوة والعقل .. غير أن الشهوة تتشيع للجسد ، والعقل يتشيع للروح .. فالجسد والشهوة معاً في جانب ، والروح والعقل معاً في جانب، وضحية الصراع وبقايا آثاره تقع على الإنسان !
إذا قلنا إن الجسد يحتاج إلى الغذاء المادي، كذلك الشهوة تحتاج إلى الغذاء الجنسي ، ولكنهما ينطلقان من نقطة واحدة ، فمتى شبع البطن تحركت الغريزة لترتوي، وكلما سكنت الغريزة هدأ الجسد ، فلذلك كان لا بد أن تسكن الغريزة ويهدأ الجسد، ليتحرك العقل وتنشط الروح ، ومن أجل هذه الحقيقة وضع الله حكمة الصوم ، إذ هو أجدى وسيلة لتربية العقل والروح معا ً.
فالصيام أنجع طريق لتفجير الطاقات الكامنة الثائرة عند الإنسان ، ولزيادة استبصاره وأظهار أبداعاته ، ومن وجهة نظر بعض الديانات الآسيوية مازال بعض الصينيين يمارسون الصوم لتنقية الجسد من السموم التي تتسرب إليه من الأطعمة والهواء ، وإذا ما أصيب الصيني بحمى فالصوم علاجه مع اقتصاره على شرب الماء
أما من الناحية الأجتماعية فالصائمون متساوون في بواطنهم ، الرجل والمرأة ، والغني والفقير ؛ أو الأبيض والأسود ، أو العربي والأعجمي ، فيميع مع الصيام الكبرياء والتفاوت الطبقي ، ويبقى الجانب الإنساني وهو البارز .. ففي رمضان يتم اقحام النفس إجباريا نحو السمو الأخلاقي والتعامل الروحي الروحاني ، وإن الحياة الصحيحة خلف الحياة لا فيها ، وأنها تكون على القمة حين يتساوى الناس في الشعور لا حين يختـلفون! وحين ينضوون ويتعاطفون بإحساس الألم الواحد ، لا حين يتنازعون بإحساس الأهواء المتعددة . ولو حققت لرأيت الناس لا يختلفون في الإنسانية بمقولهم، ولا بأنسابهم، ولا بمراتبهم ولا بما ملكوا؛ وإنما يختلفون بما في بطونهم ، وأحكام هذه البطون على العقل والعاطفة ؛ فمن البطن نكبة الإنسانية ، وهو العقل العملي على الأرض .
فلا ننسى إن الرحمة تنشأ من رحم الألم ، وهذا السر الاجتماعي العظيم في الصوم، إذ يبالغ أشد المبالغة، ويدقق كل التدقيق في منع الغذاء عن البطن وحواشيه مدة زمنية ، فتخلو الروح بالعقل ، إذ في البطنة ذهاب للفطنة ، وهذه عملية لتربية الرحمة في النفس . فمتى تحققت رحمة الجائع الغني للجائع الفقير، أصبح للكلمة الإنسانية الداخلية سلطانها النافذ، وحكم الوازع النفسي على المادة ، وروضت النفس وتنازلت عما كانت تطالب به وتتكابر عن غيره ، فالصوم أحبتي مدرسة إصلاحية لمدة ثلاثين يوماً ، وكلنا تلاميذ بها ، وهي إجبارية كل عام .
بالنسية لرؤية الهلال في وقوع الصوم وإعلانه ، هو إثبات الإرادة وإعلانها أما الروح وملذاتها ، ولو تمعنا النظر فلن نجد أمة تربي النفس البشرية لمدة ثلاثين يوماً كفرض عين على الجميع ، لتربية إرادة الإنسان ومزاولته فكرة نفسية واحدة بخصائصها ومُلابساتها حتى تستقر وترسخ وتعود جزءًا من عمل الإنسان، لا خيالاً يمر برأسه فقط ، ولو علم كل سكان الأرض إن الصيام يوحد بين البشر ، وإنه حالة من التوازن الجسمي والروحي ، لصام الناس جميعاً ، فهو إعلان لثورة وإنقلاب على الجسم وغرائزه وشهواته ، وإذا طهر الفرد وطهرت روحه طهر العالم من حوله .
هنا عملية إنسانية ، فيها يهبط كل إنسان إلى أعماق نفسه ليكتشفها ومكامنها ليختبرها وليقيّمها، عن معنى حاجة النقص لدى غيره ، ومعرفة معنى الفقر والعوز ، وليفهم الدرس نظرياً بداخل طبيعة جسمه لا في الكتب وعن معاني الصبر والثبات والإرادة حبراً على ورق ، فينطلق إلي عالم الإخاء والحرية والمساواة .
كتب عليكم الصيام كما كُتب على الذين من قبلكم، لعلكم تتقون"، والتقوى هنا تعني أتقاء أخطاءك وأفكارك السلبية التي تبعدك عن الرحمة والإنسانية ، وتكون بمركبة الصوم والصبر لمدة ثلاثون يوماً ، وهي أحق بأن تسمى رحلة معراج الثلاثون يوما.