وطنية خالية من التشدد
خطان متباينان، يشدان في اتجاهين مختلفين، ويصبان في خانتين متباعدتين. خط يدفع للتقدم والتنمية وتكييف قدراتنا البشرية والمادية والمعرفية مع استحقاقات العولمة بما يتناسب مع قيمنا وتراثنا، والخط الآخر يجر للتخلف والتزمت والتحجر والانغلاق والعيش بأنماط قرون ماضية. الأول يريد الحوار مع الآخر المختلف لما فيه سلام للإنسانية والمجتمعات بكل تنوعاتها وتعددها، بينما الثاني ينبذ كل آخر وكل مختلف ويضيق عيشه حتى لمن يقطن معه في دار واحدة.
يقود الخط الأول خادم الحرمين الشريفين بخطوات تتكاثر سنة بعد أخرى، بدأها بالحوار الوطني«الفكري» ووصلت اليوم إلى خطة لنشر الحوار من خلال تدريب أعداد كبيرة من المدربين والمدربات للقيام بمهمة توسيع رقعة الحوار على أرض الوطن ونشر ثقافة الحوار بين الناس. لذا من الطبيعي أن يثمن مجلس الوزراء في جلسته الأسبوعية الاثنين قبل الماضي حرص و«جهود خادم الحرمين ورعايته للحوار الوطني وحرصه على أن يتكاتف الجميع لنشر ثقافة الحوار».
أما خط التخلف فتقوده خفافيش الليل وظلاميو النهار، وللمجتمع معهم في كل زاوية ناعية عبر التجارب الطويلة والمريرة. فلم يسكن البال والخاطر بعد من قضية «خيمة النادي الأدبي بالجوف» حتى رمانا الإعلام يوم الاثنين قبل الماضي بقضية جديدة تحت عنوان: «متشددو الجوف» يتلفون لوحات فنية في معرض سمح بزيارة النساء! وخلاصته: أتلف «متشددون» لوحات فنية في معرض خاص، أقامته جماعة الجوف للفنون التشكيلية في مركز صوير «50 كيلومترا شمال سكاكا»، اعتراضا على مشاركة فنانات في المعرض، وتخصيص يومين لزيارة النساء.
الفوارق بين الصورتين «الخطين» كبيرة وواسعة بحيث تمسي المقارنة بينهما إجحافا في حق الخط الأول الحواري والحضاري، بل المقارنة تصبح ساذجة كمن يقارن بين الجنة والنار أو بين السعادة والشقاء. بيد أن الصورتين ترمزان وتعبران عن وجهتين يراد للمجتمع والوطن أن يتجها إليهما، وهما يمثلان نتاجا لحراك فكري واجتماعي وثقافي يقف خلف كل وجهة، وبالتالي فهما تعبيران عن تيار في الوطن يريد التمدن والتقدم وتيار يريد التخلف والتشدد.
أما من الناحية السياسية فمفضيات خط الحوار بناء لبنات جديدة لترسيخ الوحدة الوطنية وسعي متواصل لجمع المواطنين على مشتركات دائمة نحو هوية وطنية جامعة. بينما خط التشدد يفضي لمزيد من التفكك الاجتماعي وبالتالي السياسي، ليس على مستوى الوطن فقط، بل يتمدد في تأثيره السلبي حتى على المستوى الإقليمي. ينبغي للنخب الفكرية والسياسية والعلمية العمل على دعم الخط الأول، بل التكاتف لوقاية المجتمع من تيار انفلونزا التشدد الذي تنتشر عدواه بشكل لا يبدو أنه عفوي، لذا فالحاجة تصبح ماسة لجهد فعلي وحقيقي يواجه تيار التشدد ويقتلع جذوره.
الوطن بحاجة إلى مواطنين يرصون صفوفه ويقون بنيانه ويرفعون شأنه، ولا يتحقق ذلك بمواطنين يتشربون التشدد في منازلهم بتحريم كل شيء وفي مدارسهم بتكفير المخالف وفي منتدياتهم بتهميش المغاير. وطننا بحاجة إلى روح المواطنة الخالية من التشدد. نعم الأمر ليس سهلا، فكما يبحث المرء، عند حاجته، عن أغذية خالية من الدسم، يحتاج الوطن إلى مواطنين خالين من التشدد. والله من وراء القصد.