تعليم المقهورين
تعليم المقهورين هو عنوان كتاب من تأليف المعلم البرازيلي باولو فرايري، وطبعته العربية الأولى صدرت عام 1980م عن دار القلم ببيروت، والكتاب في جوهره هو خلاصة تجربة إنسانية حية وحقيقية في مجال التعليم، حيث توطدت شهرة الكاتب وهذا الكتاب على أنه يقدم نظرية جديدة في أساليب التعليم.
لقد انطلقت تجربة الكاتب هذه من واقع معاش، يسوده ويغلب عليه البؤس والفقر والجوع والحرمان، حيث كان باولو وأسرته جزء من هذا الحرمان، والذي جعله يُقسم على نفسه بأن يكرس حياته للنضال ضد الجوع والحرمان، ومن أجل تطوير مجتمعه وتقدمه والرقي بأفراده، ليكونوا قادرين على المشاركة والمساهمة في تقدم مجتمعهم والرقي به. إن هذه التجربة الحية التي انطلقت وبدأت من الواقع، هدفت في نهاية المطاف إلى تغيير هذا الواقع ذاته، وتطويره والرقي به وبأفراده إلى ما هو أفضل وأحسن.
أذكر أنني اشتريت الكتاب في نهايات ثمانينات القرن الماضي من مكتبة المتنبي بالدمام، واليوم حين أكتب هذه المقاربة من وحي هذا الكتاب، أكون قد قرأت الكتاب للمرة الثالثة، لأقدم هذا العرض على طريقتي، في سلسلة من المقالات المتتالية، من أجل تعميم الفائدة. فقراءة الكتاب اليوم له طعم خاص ومختلف في ظل ما يحدث من انتفاضات وثورات وأوضاع صاخبة تمر بها بعض مجتمعاتنا العربية، خصوصا أنها ترفع شعارات التغيير والإصلاح، إلا أن هذا التغيير إن حدث، لن يكون له مردود ومعنى وقيمة، إذا لم يؤدي إلى إحداث ثورة حقيقية في مجال التعليم وأنظمته وأساليبه.
إنه لمن المهم والضروري لنا ونحن نقدم هذه الخلاصة حول أبرز أفكار الكتاب، وما يمكن تقديمه وطرحه من ملاحظات واستنتاجات وانطباعات، هو أهمية الانفتاح على الثقافات والتجارب الإنسانية المختلفة في هذه الدنيا، وقراءتها وفهمها واستيعابها والتفاعل معها، واقتباس الأفكار المفيدة والخلاقة منها، ومن ثم إعادة إنتاجها بما يتناسب ويتلاءم والبيئة الحضارية، والمنظومة الثقافية التي ننتمي إليها ونتكون منها، من دون انسلاخ عن قيمنا وثوابتنا وهويتنا.
إننا اليوم أحوج ما نكون إلى التواصل المعرفي والثقافي مع كل الآخرين، للتعرف عليهم وعلى منجزاتهم في شتى المجالات، إذ كيف لنا أن "نخوض معاركنا في الداخل والخارج، إن لم نتعلم قوانين التاريخ ومفرداته، ونقرأ عن تجارب الآخرين الذين سبقونا في مضمار النهوض والتنمية والتقدم، والتماهي مع روح العصر؟ وكيف لأمتنا أن تنتج فلاسفة ومفكرين وشعراء وروائيين ومبدعين عظاما، حين تنأى شعوبنا عن الكتاب، وتكون فريسة لثقافات الاستهلاك، ولأفكار وثقافات ونظريات فسدت بفعل تقادم الزمن عليها. وكيف لأخلاقنا أن تستقيم وتتعزز، ولشخصيتنا أن تصقل، فتتهذب نفوسنا، ونرتقي إلى عالم فوار متحرك نكون جديرين بالانتساب له. وكيف للمجتمع أن يتطور من غير مثقفين يعكفون على قراءة الكتاب، والتزود من معين العلم؟
كيف يمكن أن يكون العرب في الخلف من جميع الأمم حين يتعلق الأمر بالقراءة ودينهم وقرآنهم يعلمهم أنه في البدء كانت الكلمة... وكتب التاريخ والتفسير تشرح لنا أن أول وحي نزل على الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وسلم هي سورة اقرأ. ولم تكن صدفة الدعوة إلى طلب العلم ولو كان في الصين. ومع ذلك كله فإننا أمة لا تقرأ. والتقارير الأممية التي تتحدث عن ذلك تثير فينا القشعريرة والرعب. وتكشف لنا أسباب تخلفنا وعدم قدرتنا على اللحاق بشعوب الأرض، عندما يتعلق الأمر بالنهضة والتقدم وبناء هياكل الدولة المدنية الحديثة بكل تشعباتها وتجلياتها".
إن الدعوة إلى الانفتاح على تجارب الآخرين وقراءتها والتعلم منها، لا يعني أنها دعوة إلى الاندماج في الآخر، والقبول المطلق بمنظومته الثقافية، بل هي دعوة للتعارف والتعرف على هؤلاء الآخرين وتجاربهم الإنسانية والحضارية والثقافية، كون هذه التجارب الإنسانية المختلفة والمتنوعة هي ملك للبشرية جمعاء، يمكن لها من خلال إطلاعها على تجارب بعضها البعض، تبادل المعارف والخبرات فيما بينها، بناءً على ما تمتلكه كل واحدة منها من رصيد معرفي، في حوار حضاري بنّاء، يقرب المسافات المتباعدة، ويُجسّر الهوة الفاصلة والحادة بينها، بدلا من الانخراط في تلك الصراعات والخصومات والفتن، التي تخلق الحواجز بين البشر، وتدفعهم للانطواء على الذات والانغلاق عليها.