العودة للتراث
إن العودة للتراث تعني بمفهومها العام هو العودة لاقتباس وأخذ المفاهيم والروئ التي رسخت في أذهاننا و توارثناها من أبائنا وأجدادنا والتي لا زالنا نتمسك بها و تتحكم في كثير من روأنا ومفاهيمنا نحو الحياة العصر.
إننا كثير ما نسمع بالدعوة للانفتاح والتحرر ومحاولة تصحيح روئيتنا بمعزل عن قيود التراث و انعكاساته في تأطير نظرتنا لكثير من الأمور والظروف الحياتية التي نعايشها بشكل وبطريقة تغير و تطور من نمطية التفكير لدينا وفي كيفية إداراتنا لشئوننا، ولكي نكون مؤهلين للتعامل مع تطور الحياة والتسابق مع الزمن الأخذ بالتسارع والديمومة في التطور ومراحل التقدم وانعكاساتها على عادات وتقاليد الشعوب والتغيير في نمطية التفكير والحياة وطرق التعامل والتعاطي معها.
هنا لا بد أن نذكر التسأولات العدة والكثيرة والتي تدور حول هذا المفهوم و هل يستطيع الإنسان أن يتخلى أو يتحرر من أو عن تراثه وهل يعني ذلك فقدانه لتوا بثه و المبادئ التي من خلالها يفسر الحياة والكون و عن مدة صحة تلك الثوابت وهل هي صحيحة وثابتة راسخة لا تقبل الجدل أو النقاش فيها أو ما حولها، كل تلك الأمور تحتاج إلى نقاشٍ ومحاولة لإعادة قراءة للتراث بروية وتعقل ومحاولة التحلي بالواقعية والتي قد تقودنا لتشكيل نظرية ورؤية من خلالها نستطيع أن نؤسس و نؤطر لأنفسنا منطلق وقاعدة للإبحار في عالم من المعرفة قادر على تشكيل رؤية صحيحة ومنهاج سليم نستطيع من خلاله أن نحسن التعامل مع التراث بما يتوافق مع الكثير من روأنا وثوابتنا و طموحاتنا.
كل تلك الأسئلة التي تراود أذهان الكثير من المثقفين أو ممن تطرق لمسألة مناقشة التراث لازالوا بين الفينة والأخرى يطرحون أمثال هذه التساؤلات والتي لم تزل تشغل مساحة وحيزاً من الحراك الثقافي والفكري الذي يشغل أقلامهم فينبروا يناقشون ويَشرحون ويُشرحون فيها من خلال كتاباتهم وأفكارهم بحثاً و تعليقاً و تدقيقا قد يضعون فيه يدهم على الجرح في علاج تلك المشكلة وقد لا يوفقون في التوصيف والتصنيف أو المحاولة في تحديد والتجديد في التراث مما يجعلهم بعيداً كل البعد عن إيجاد الحل والعلاج وجعل المشكلة أكثر تعقيداً وبعداً في تناولها أو مناقشتها.
هنا ينبغي الإشارة إلى أن الدعوة للتحديث والتحرر من التراث صادقة في منشأها لكنها ضائعة في مسلكها فالدعاة الأوائل لمثل هذا المسلك والتفكير لم تكن دعوتهم بريئة مما يخطط له الآخرون في سبيل هدم المبادئ والقيم التي تؤطر مفاهيمنا وذلك من خلال المساهمة في سبيل هدم و تحطيم قلاع وحصون ثقافتنا كي يسهل لهم السيطرة علينا ثقافياً وفكرياً بعد أن سيطروا عسكرياً واقتصادياً.
إن الإنسان لا يستطيع أن يتحرر من تراثه إلا يبدل جلده أو لونه وحتى لو تحرر من تراثه فإنه سوف يبقى لديه ما يتعلق أو يلعق به من أثر ذلك التراث واضحاً وموثراً عليه حتى في نوعية أكله أ ومشربه وملبسه أو طريقة تفكيره مما لا يستطيع أن يتخلى أو يتحرر كلياً عن ذلك التراث وإن بقاء تلك العوالق مصاحبة له تشكل في مضمونها تمسكه أو تمسكها به بدرجة ما.
لذا نقول بأنه ليس في إمكان البشر التخلص أو التخلي عن تراثه، لكنه في الوقت نفسه يستطيع أن يصحح من نظرته وطريقة تعامله مع التراث بشكل يتم من خلاله معرفته بصورة أكبر كي يباشر مسألة التدقيق والتقويم والتصحيح لكثير من والروئ والمفاهيم التي تتحكم في طرق تعامله مع الحياة وكيفية تعامله مع الأشياء و المحيط الذي حوله.
إن النظرة للآخرين من خلال التراث يشوبها الكثير من الأخطاء التي تراكمت عبر الزمان فأصبحت كالقداسات التي لا ينبغي المساس بها أو التعرض لها، وهنا لا نقصد بها النظر إلى فئة معينة أو أصحاب ديانة أو مذهب معين بمقدار ما نريد أن نوضح به النظرة الكلية حتى في نظرتنا لبعضنا البعض ونعني بها مجموعة الروئ والمفاهيم التي تتحكم في نظرتنا فيما يحيط بنا أو مما حولنا.
وقد تصيب نظرتنا التراثية في بعض الأحيان لكنها قد تخطى أحيانا كثيرةً والخطأ قد يكون جسيماً بحيث أنه يهدر مصالح العباد والبلاد مما يتسبب في مفسدة لا يمكن إصلاحها إلا بعد أن يتسع الجرح ولا نستطيع معالجته وما ينبغي معرفته هنا أن التراث ليس بمعصوم ينبغي إتباعه وعدم المساس أو التعرض له.
لذلك نحتاج إلى تأكيد وتثبيت دعائم كثير من الروئ و المفاهيم عبر مناقشته نقاشاً دينياً و عقلياً و محاولة الإحتكام إلى مصاديق و مداليل تثبت تلك الروئ أو تثبت عكسها وليس التسليم بها كمسلمات ثابته وليس لها من ثبات إلا رسوخها في أذهاننا أو توارثها وشياعها بيننا حتى أصبحت كالحقيقة المطلقة والثابت الأساسي والرئيسي وما عداه أو خالفه هو الباطل.
إن سعينا للانفتاح أو التجديد و التحديث في محاولة خلق قراءة مغايرة أو متجددة في فهم التراث من جديد ينبغي أن تكون تلك القراءة بعيدة كل البعد عن أهوائنا ورغباتنا أو عواطفنا التي قد تتوافق مع تلك الرؤية أو ضدها.
إن من السهل محالة إضفاء الشرعية الدينية على كثير من الروئ والمبادئ و المفاهيم عبر إيجاد ما يؤكدها أو يثبتها و يدعمها ويشرعن لها من التراث والتاريخ من السهولة بمكان وليس من الصعب على من يريد أن يجد ذلم فصاحب الرأي أو الفكرة يستطيع أن يجد له ما يدعم و يسند رأيه وما يعتقد بحيث يستطيع أن يجابه و يواجه من يختلف معه في الفكرة والرأي بما يقوي حجته ويد حض حجة خصومه.
إن صاحب الرأي والرأي الآخر المختلف معه يجدان لهما في بطون التراث وعلى شطأنه ما يدعم أرائهما و يؤكد وجهة نظرهما من خلال التراث الذي هو كالبحر الزاخر بما يحتوي في أبحره من تراث عظيم وكبير ورثناه عن طريق الآباء والأجداد، لكننا في نفس الوقت لا زالنا نعاني من تبعات ذلك التراث الذي يحتوي الشيئ ونقيضه في نفس الوقت فبينما نجد في كتب التراث المدح للعدل والإنصاف والأشخاص العادلين، نجد أن هذا التراث ينبري لمدح بعض الظلمة لا لشيئ إلا لأن اولئك كانوا فاتحين لبعض البلدان فالحجاج هو الفاتح العظيم الذي فتح بلاد السند والهند وسجستان لكنه في جانب آخر يصفه ويذمه و يقدح فيه وفي أقرانه كجنكيز خان وتيمورلنك و غيرهم بأسوء العبارات ويصف ظلمهم بينما يحاول البعض ممن يكتبون عن التراث أن يبرر للحجاج ما اقترفت يداه من سفك للدماء و كأن تلك الفتوحات تشفع له أو لمن أراد أن يمارس الظلم ضد المجتمعات، من هنا ينشئ الإختلاف بين الرؤيتين.
إن الباحث في التراث يستطيع أن يجد كلا الشخصيتين المتناقضتين في شخصية واحدة وما الحجاج إلا مثال بسيط لما يمكن أن نجده متناقضاً في كتب التراث وفي تراثنا الممتدة جذوره في عمق التاريخ الذي ينتمي له عبر أربعة عشر قرناً من الزمن حافلة بالنماذج و هذه الصور وغيرها.
إن الكثير منا يقدس الماضي بوصفه أكثر شاعرية و جمالاً من الحاضر بل نكتب و نتكلم ونتأسف و نتحسر على القيم و المثل الجميله التي كان يتمسك به الأباء والأجداد وكيف أن الأبناء أضاعوها، لذلك هم يطرحون الماضي و نموذجه كوصفة سحرية لعلاج كل أنواع العوارض والأمراض التي تصيب المجتمع.
إن التمسك بالماضي والظن بإنه هو علاج للحاضر ووصفه بأنه المدينة الفاضلة والتي من خلال العيش فيها يتم حل كل المشاكل والعقد التي نواجهها، لهو جزء من المشكلة التي نعاني منها في الوقت الحالي بدل أن يكون الحل، فلا يمكن أن نُعيد عقارب الساعة للوراء وما بناه الفكر الإنساني والتطور الحضاري عبر الآلاف السنين من نتاج للإنسانية هو نتيجة للتراكم المعرفي والذي تطور مع تطور الإنسان وآلياته في تطوير طرق وأساليب عيشه و تعامله مع الحياة، نعم قد يفقد الإنسان ذلك في لحظة زمنية من لحظات الجنون الإنساني والذي عادة يمر عبر الحروب التي تعصف بالإنسانية فتهدم كل ما تم بناءه وتأسيسه.
إن العودة والرجوع للتراث تتطلب نقداً واعياً وثقافة متبصرة عارفة بكوامن القوة والضعف في ذلك التراث كي تستطيع التعامل مع متطلبات العصر وحاجياته دون المساس بثوابت الأمة مع تحديد تلك الثوابت فليس كل ما جاء في الماضي هو مقدس لا ينبغي المساس به وكأن تجربة الماضي وما فيه هي فوق النقد وبلغت مرحلة العصمة المطلقة والتي لا ينبغي المساس بها. لذلك يتم اسكات كل صوت يتولى عملية النقد وكأنه صوت نشاز في هذه الأمة بل يتم تجريم و تجريح كل من يحاول قراءة ذلك الموروث بل يتم تشويه صورته، نعم ليس كل ناقد بصير هنا بل هناك البعض ممن يحملون أفكاراً هي في مضمونها أو في خلفياته الثقافية والفكرية بعيدة كل البعد عن هذا الموروث بل هي أقرب للفكر الغربي والثقافة والرؤية المغايرة في أطروحاتها ومسلكها في هذه الحالة ينبغي عدم السكوت و محاولة تصحيح أو الرد على مثل تلك النماذج بافضل الطرق وأحسنها وتوخي لحكمة والرد بإبداء وجهة النظر بطريقة أكثر وعياً وتحضراً من أساليب السباب والشتيمة والتشهير و كما قال تعالى ( ادۡعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالۡحِكۡمَةِ وَالۡمَوۡعِظَةِ الۡحَسَنَةِ وَجَادِلۡهُم بِالَّتِى هِىَ أَحۡسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعۡلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعۡلَمُ بِالۡمُهۡتَدِينَ) سورة النحل رقم الآية.125
هنا ينبغي أن ننوه باالمحاولات الجادة والواعدة في قراءة التراث بصورة صحيحة تحاول أن تلامس الواقع وأن تتعاطى معه في توصيف المشكلة والعلاج، والتي قام بها بعض الكتاب من المسلمين ممن حاولوا أن يؤسسوا لنظرية جديدة في التعاطي مع التراث.
الأولى:- وهي التي تحاول أن تجرم التراث و تحاول أن تنسب كل قصور لدينا والهزائم التي تعصف بنا إلى موروثنا وثقافتنا التي ورثناها ومحاولة جعل ذلك التراث شماعة نعلق عليها ثياب هزائمنا.
الثانية:- والتي تقدس التراث وتجعله فوق الشبهات والنقد بما لا يمكن المساس به أو محاولة التعرض له بشكٍ أو بريب وكأن ذلك التراث بأجمله وحياً من السماء و لا تفرق بينه وبين الوحي في درجة القداسة.
أمام كل ذلك نحتاج للنظرة الواقعية الوسطية والتي تحاول أن توفق بين النظرتين برؤية أكثر نضجٍ ووعيٍ كي يتسنى لنا الإبحار في سفين التراث بما يعود بالنفع علينا ومحاولة ملامسة الوعي بنظرة أكثر نضوجاً ووعيا.