كلمات من هول المصيبة
الحياة .. تشجينا أحيانا وتسعدنا أحيانا، تزرع على ملامحنا الفرح وسرعان ما تذرف دموعنا لفقدٍ أو خسارة ...
لكنها حتماً تسير وفق خطط إلهية .. ليس من غاية لها إلا امتحاننا أنصبر عند المصيبة أم نجزع ..
أنحمد الله ونشكره عند الفرح أم تنسينا غمرة الفرح .. معطيها لنا ..
لم تكتمل حتى ثلاث سنوات منذ فقدنا عماد العائلة .. الرجل الصابر لفقد فلذة كبده الوحيد في عز شبابه ..
المثقف غزير العلم الحافظ للقرآن ولسنة نبيه وروايات أهل بيته .. الحكيم بعقله ..
الكبير بقلبه الذي يسع الكبير قبل الصغير .. ملجأ الجميع عند الأزمات ..
لا زلت أذكر كلماته الأخيرة حين قال لي : سأموت وأنا أحمل همك من بعدي ، وقطعاً أعلم أبعاد كلماته ..
ربما لأنني كنت شفافة بالحديث معه عن أدق تفاصيل حياتي كزوجة وأم وصديقة وأخت .. يعرف مكنونات قلبي وطبيعة مواقفي ..
وكم كانت مكالماتنا تطول وتطول ... وتنتهي بكلمة تتكرر دائماً .. الله يا ابنتي كم أنا فخور بك
وفي يوم بائس فقدته .. ولا زالت مواقفه .. وكلماته .. تزدحم بداخلي كمعين لا ينضب .. أستلهم منه القوة على مواجهة مصاعب الحياة ..
وقد قيض الله لي أم رؤوم .. أرضعتني الولاء النقي لأهل البيت عليهم السلام والتأسي بهم عند الشدة فكان نعم الأثر على نفسي عند فقدها ..
لا شيء يمكن له أن يعوض أحد ما خسارة أحد والديه .. إن فقد أحدهما فالسلوى في الآخر لكن المصيبة العظمى تكمن حين نفقد أحدهما ونحن لم يتسنى لنا نسيان الآخر ..
وهي ليست كأي أم .. إن كان الأب بذلك الحجم من العطاء .. فهي منبع العطاء وأصله .. يدها البيضاء عبرت عن نفسها بدموع من يحضر العزاء .. منهن من فقدت برحيلها الأم ومنهن من فقدت برحيلها السلوان .. ومنهن من فقدت برحيلها الدعم ..
والكثير الكثير تتداوله الألسن عند سلامهن علينا ..
تلك الليلة .. كان عقد ابنة أخي اليتيمة " سارة " وكنت على وجلٍ وحيرة كيف أجمع بين خيرين في وقت واحد ؟
الخير لمجتمعي .. أم الخير بإدخال السرور على قلب اليتيمة ؟
ولم تطول حيرتي .. فما زرعته بداخلي أمي كان كافياً بأن أعمل بكل ما استطعت من جهد لأتوج ما سعيت له ...
بحضوري لهذا الحفل المبارك وبعد تأكدي من أن كل الأمور تسير وفق ما خططنا له .. قررت الذهاب ومشاركة الجميع فرحتنا بابنة أخي ..
ولا أخفيكم إنني كنت على وجل وقلبي يخفق على غير العادة .. هناك أمر ما يدفعني للمسارعة في المغادرة .. يقول لي هناك أمر ما بانتظارك ..
ودخلت البيت والسكون يخيم على أركانه .. والزوايا تزدحم بحضور كل العائلة .. الصغير قبل الكبير ..
أبناء وبنات العمة وأولادهم .. أبناء وبنات العم وأولادهم ..
وما الغريب .. الكل مبتهج لزفاف اليتيم على اليتيمة !
كلهم هناك .. لكن الغريب أن أصحاب البيت غائبون .. !
قلت .. ما الأمر .. ؟ سكوت يطبق على أنفاسي .. جعل قلبي يتوجس خيفة ..
وأعدت السؤال مرة أخرى أكثر حدة .. أين أمي ؟
فأجابوني بأنها وقعت عليهم وحملت للمستشفى ..
وأخواتي أين ؟ معها أيضاً
وبلا شعور .. صرت أبحث عن هاتفي لمحادثة زوجي .. وإذا بهاتفي يرن .. زوجي على الطرف الآخر قائلاً : أتصل لإيصالك للمستشفى ..
خرجت مسرعة .. وسألته : ما بها أمي ؟ فقال : لا شيء فقط وقعت وحملوها للعلاج ..
وصلت المستشفى .. وأرى أشباحاً تستقبلني .. وصوت عويل يفجع القلوب .. ولا زلت متشبثة بالأمل ..
أن ما أراه لا يعنيني ولا يمت لي بصلة .. وأمي بالداخل تتلقى العلاج .. وسنرجع مرة أخرى لنكمل فرحتنا
لكن سكوتهم أفزعني .. تجاهلتهم وفتحت باب الغرفة .. لأرى أمي وقد أحاطها الأحباب وهي لا حول لها ولا قوة ..
أمي .. حدثيني .. كلميني .. لم أعهد منك الصمت عني .. وتجاهلك لتوسلاتي ..
أقبلها تارة .. وأمسح على رأسها تارة أخرى ..
وأعود للحديث معها .. أمي أي مزحة هذه التي تمزحينها معي الآن ؟
ربما كان قلبها أرق من أن تحتمل الفرحة بيتيمة إبنها !
أو ربما انتظرت حتى تطمأن عليها بتسليمها لزوجها في تلك الليلة وترحل لزوجها وابنها وتقول لهم .. كم قد صبرت بفقدكما ..
وكم تحملت من غصص الحياة حتى يأتي هذا اليوم .. فهل وفيت ؟
وقد وفت والله لهم ولنا ولكل من حولها .. فعظم الله أجورنا فيها وتقبلها الله بقبول حسن وحشرها مع محمد وآله .. وأعاننا على السير على نهجها وخلقها العظيم
ولأنها وفت معنا لابد أن نفي معها ونكون كما أرادت لنا .. أن نصبر على المصيبة دون أن تنسينا من قدم لنا معروفاً مهما كان صغيراً ..
وأنتم أهل المعروف .. كنتم خير أخوة وأخوات لي .. بتعزيتكم أخوتي .. وتواجدكم أخواتي ..
وأنا معكم بقلبي .. ولولا زحمة المعزين .. لجاهدت بحضوري معكم ..
وقد اطلعت قبل قليل على محضر الاجتماع .. ونقاطه لا تدل على حجم العطاء بداخلكم فقط .. بل أيضاً على حرصكم لتقويم أي خلل كان حتى تكون النسخة القادمة خالية منه ..
إن سعيكم مشكورا .. من الله قبل الآخرين .. بكم يفخر المجتمع وبأمثالكم تتصدر القطيف أعلى الرتب ..
تحياتي لكم جميعاً