معرض ملامس : في حضرة الفحم أصناف الذهول
القراءة العامة لمعرض " ملامس "
المعرض الأول للفنان المبدع ( علي الجشي ) و الذي أقيم في قاعة نادي الفنون بمركز التنمية الاجتماعية في القطيف
في ساحة من كمالٍ فني و زمانٍ وقور رحتُ أدورُ في بحر من الفحمِ المعمّمِ بالجمال حدَّ الغوص رغماً و محاولاتُ الطفو على ظهر لوحة كانت تصنعُ فناً بذاتها عوضاً عن أن تكونَ مصنوعة من فن بذاته ، فصرت ككرة في ملعب ، يركلها الزمن الدوار ، يمررها الماضي في القالب الحاضر ، يستهويها الآتي من مرمى الغيب ، فالفنانُ وجدانٌ ينبثق كصدارة من بين أُطر ، فيصنع من لوحة زمن ، وهن ، طاعن مسن ، خيل و ميل و مجون فن ، قطرة مشتعلة ، ورقة متعرقة ، مبنى مهضوم ، حضارة انسان ، أعين ألسن ، حروب و هُدن
و هناك - حيثُ ملامس - كنتُ سقطتُ من شجرة ، كورقة خريفية ، أجنَّها الهبوب ، فرضتْ بالتيه المدهش و التصفّع بالجدران ، كراهب حين صلاة ، ما أحب الهدوء ، كأميرة في حضرة سلطان ، فملامسٌ كان ، ممتدٌ كعشيرة ، شيخها أصيل ، زمنها واصل ، فرسانها أشداء ، و كنتُ فيه فرعٌ مشردٌ حظيَ بالآصال و الأطلال فأحبَّ الانتماء
لكم شدني التقاطر المانح شعوراً بالتصبب المتأتي مع دقة العروق الورقية المستخدمة كأودية ، فنثرُ الندى عطاءٌ مكثف ، و التقارب و التجانب مع الكثرة يوحي بالجمهرة الصانعة سيلاً ، فالمنحُ و إن كانت صغيرة ما أُقصيتَ عن الأثر الكبير ، و ذلك مرتبط بماهية المُعطي و مقدار المعطى ، مروراً بالصلاحية الزمنية للمبذول كعطية و المكان الأنسب لكل ذلك ، فلكل غرس مناخ و تربة تنموية.
أحببتُ المنفذ الزهري المؤدي للتفاصيل الورقية حيث العروق و الخروق و الالتواءات الجانبية ، فالبداية مهما كانت مزهرة ، مكتملة قوية ، و مهما امتلكت جاهزية أن تبقى ندية ما انصرف عنها القاضم منها ، و لا كف أذاه مريدٌ عن جانبيها – إلا بعون الله و صونه - صانعاً بذاك خرماً كأثر ، كأذى ، كعلامة من مشين بعد شذى.
و في حين كنتُ ألهو بانزلاق القطرة من على الأرفف الورق ، كانحدار مشدوه للمسطح الجاذب ، سحبتْ عيني التفاحة المشتعلة بللاً المتقاطر نداها كشرار ، حدّ رغبتي في قضمها ، أو رميها في السلال ، أو حتى قذفها بعيداً بكل ما أوتيتُ من قوة عسى تنفلق ، فالنار شهية في أحيان البلل ، أحيان المطر ، و الدفء ميلٌ نفسيٌ و إن ألهبَ و أتعبَ.
هنا يساورني الشك ، أيمكنُ أن أصنعَ بحراً من مفردات ، من خطوط و منابت ، تجاعيد و شعرات ؟!
واقعاً النحو نحو المسنين ما كان يسيراً إنما كانَ كأسنة زمنية ، تتوزع في جسد الحاضر ، تنبت في خلاياه عفواً غيرُ مؤلم ، تتمرغ في خواصره ، تورقها كسلالات ، كجدة تقص في حضرة الجد الحكايا ، فزمنُ الحداثة لا يلغي العراقة ، و لا البُسط تُغني عن الثنايا فلدى المشيب أغنيات العمر المنصرف ، و الجهد المنصرم ، و الزمن اللئيم ، و الكهولة حصيرة مفروشة على جمر مفترَشة بالوجع المكبوت و الألم المتوغل حد الاعتياد إلى حين استساغة ، ليتسيد الصمت كراسي الحكم اللسانية مكمماً أفواه المنددين بالآثار الزمنية على محيا العجوز المسنود بصعوبة و كاحله الملتوي ، و هوج الاكزيما لديه إثر الاحتقان الداخلي و الرطوبة الخارجية.
أحببتُ الأفواه المقوسة و ضبابية الثغور الفاغرة عن بعض عتمة في الداخل خلا من بعض لألأة ، شدني العجوز ذو الساقين المضمومتين لجذعه واحدة في استقامة كاملة ، كجبهة صامدة رغم الأخرى التي بها ميلٌ للخارج كفعل تحريضي تشخيصي أو غير تشخيصي يستدعي المقاومة بعد الرصد إثر التنبؤ.
أيضاً ، التكافؤ الحادث في حجب عين دون أخرى و ارتفاع اليد اليسرى في حين نزول اليمنى ، كحالة من التوازن عند اعتمال الصدر و اعتصار العقل و البحث عن اصطلاب في الشارع المنتكس ، و هنا تجدر الإشارة للجمال المستخرج من بروز المسام و المنابت و دقة رسم الشعرة و تلوين البثور ، حدَّ تحريك الخلية بالمجعدة و الإحساس بالترهل و العامل الزمني المؤثر على هرمية الفرد و وصوله لأرذل العمر ، فالبياض الوافر المنبثق من الأساس الطبيعي – الأسود – يوحي بالاكتساح الزمني ، و الاستعمار المشيبي الغافي جنب الليالي الأولى المستشعر زمانه رغم التولي و الصدود.
أما الأحصنة فكانت أساطير ، و كنتُ لديها كفارس يقرأ عوذة ، رُقية حماية ، فالحروب ما تولي إنما تنجلي بعد التجلي في كائنية دورية منذ الأزل إلى أن يفتح الله ، فإن ما كنتَ فيها مطحوناً كنتَ فيها الطاحنُ.
فالعيون هناك كالقضايا المعلقة في الأمصار عبر الأعصار، فمنها المتوجس الشبه مغمض كأن يخشى المفاجأة إثر ارتفاع الجفن عن نوازل النظر ، منها الحاد الناظر من الزاوية المتوعدة المتعدي ، المهددة المتجرئ ، المنددة بالحماقة التي ترتفع عنها فتكتفي بالثرثرة البصرية إيذاناً بالفزع المصيب بهلع ، منها ما غاب من أصله جملة و تفصيلاً ، فالبعض ليسَ أهلٌ أن يرى أنكَ فعلاً تعي تدري و ترى ، و كم أحببتُ تلك المنخفضة عفواً كأن تكف النظر عمن دنا بالفعل و القول فأشبعها هماً ، فتراها تنصرف في عزة عوضاً عن البقاء الذليل ، كأنْ تستغني " فَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَ أبْقَى "
هذا هو الفن ، أن تحرك الساكن ، أن تصنع الحياة بالأدوات المجمدة ، أن تجدَ الشعورَ فوارٌ كأنَّما الفنان للتو أمامك يشرعُ يرسم ، فتقرأ أنت إيماءات الرأس و إيهامات الذراع ، النفس الصاعد كشهقة خيل يرتفع بصدره تطاولاً مستطيعاً و كزفرة آخر يحمحم في معترك النشوة ، لا ينفك عن لجة الصهيل ، لا ينزل حلمه عن صهوته.
و حيث أني لا زلتُ هناك - صوب الخيول – فقد شعرتُ بالعدو الجداري إثر تراتب الخيل الراكضة بعد النابشة و ملاحقة المستقرة أخرى صاهلة ، حدَّ قياس المتقدم عن المتقهقر ، حدَّ سماعي حمحمة و صهيل ، وثبة حافر ، ضربة قاع ، لفح من الأذناب المتحركة ، دغدغة النواصي بالشعر السابح في الهواء الملفوف بأمنية ، فلكل جولة هدف ، و في كل ميدان صائل ، و هذه الجدارية كانت كإسطبل تجد في مغناه دلالات الفروسية المُبيّنة كصراحة و المُغيّبة كمواربة.
أيضاً أحببت الصعود من اللون الأبيض حتى الأسود و ذلك عند الرغبات العنيفة ، القرارات الغير قابلة للرجعة ، و الممتد الغير مرتد البتة ، و كصناعة للمفارقة و الإلمام كان هناك نزول من الأسود حتى الأبيض كلين ، و أحيان للعفو و الخلاص ، فالمدارج اللونية مذاقات أنفس و ماهيات وجدان تتمثل في لوحة ذات تعبير رسومي لدى نشوة عند فنان ، و هي هنا تزاوج التضاد تارة بتمازج التحامي دال على الانسجام و غياب الفواصل و تلاشي الحدود و تارة من غير مداخلات فلكل مساحة و أثر ، و الحاجز الفاصل موجود.
أيضاً التراوح الواضح بين ارتفاع الرؤوس عن مستوى القوام العام كإرادة ناطحة المعيق و انخفاضها عنه كإيمان و تسليم بالقضاء الحتمي و الحال الحكيم و إن غابت حكمته عن نباهة الإنسان ، و لذا جاء في بعض أحيانه صاعداً جداً بالرأس و الصدر كنشوة وفي أخرى هابطاً جداً بذينك كركود ، متخللاً كل ذلك صور من الحالات المتوسطة التي تمنحك تعايش فئوي رغم اختلاف النمط.
أما الأطراف فكانت قضيتي ، حيث شدني خروج الجزء التخيلي من الجسم الفعلي كطرف ، فليست كل النهايات كما نشتهي أو نتصور ، ليس جميعها بيّن و صريح ، و ليست في الثبات كما نظن فثمة رياح تغيير ، و كداعم لوني للمعنى المراد بدأ الطرف قاتماً لينتهي باهتاً ، فالنزول اللوني ساحب للجهد و المساحة وصولاً إلى الشعور الختامي - إن اعتبرناهُ كهدف - الممثل هنا بحافر ، فتجده تارة متوثب لضرب المسطح الواقف عليه ، كأنما يشج منه الرأس ، أو يفصل عنه العنق ، ليصير في أخرى مُغيباً يلوذ في عمق ما بعيد ، كهدف مدفون ، محفوظ عن الأعين و الألسن و الظنون ، مستفردٌ به ، كأحقية في التخفي و المواربة.
و مع الإمعان سنجد المسطح صارماً متسقاً متماسكاً كعدم إتاحية لتفتيش و التنبش ، أخيراً نجد هذا الهدف – الحافر – و قد قرر التغير عن الطبيعة المناسبة لكماله رسومياً و شعورياً إثر الخروج الشاذ عن البيئة المحيطة ، كفرع يستعيض عن أصله بصراحة ،لتكون الحظوة من نصيب الأغصان التي أشبهت العضلات المستعظمة و العروق المضخمة و المضمخة بنشوة الوصول القريب للهدف المتمثل في الحافر كنهاية للطرف.
من الأمور التي جرت أخيلتي في هذا المعرض الحاضن المقوس للخطوط المستقيمة ، و كأن المنحنى أولد ميلاً لما تنازل عن بعض المقدار الدوراني حتى إن تخلى عنه تماماً أولدَ مستقيماً يصنعُ الشتى من المباني التي كانت عموماً منبطحة ، مقاربة للأسقف ، و في ذات الحين واقفة حد الانحناء توحي لك بأنها تسقط عليك و في هذا ازدواجية ناجحة ،
فغياب التحديد يعني مرونة و المرونة تعني كثرة رؤى.
أما القوس الضام فلا أدري إن هو إلمام للوارف الممتد كحيازة و حفظ حقوقي و ذلك عندما أنظر ( لي ) ككائن فوقي - حالة ضم و إلمام - ، أو هو تكالب هذا الوارف الممتد حد الخنق بالنعيق و التضييق عند النظر ( إليه ) ككائن فوقي – حالة تمرد زمجرة و محاولة إعدام.
أخيراً مناطق الفتق مقابل مناطق الرتق ، التصدع المتحدث عن الاضطهاد السكني و غياب الترميم ، الشقوق الصارخة في الجدران المعتقة تبحث طبيباً يسد نزف الجراحات بحفنة قطن ، فالمبنى المجروح مقابل المبنى السليم يصنع حسرة ، طبقية و تحزب ، فلكل داء دواء ، و الكل يستحق العيش بسلامة و سلام.
عصيٌ جداً على ناشئ مثلي أن يلم بمفرداته خمسين نهراً دافقَ الألق و القلق ، مختصراً الدور الزماني في خواصر اللوحات المعلقة كأدمع جدارية تخشبت على إثر مرارتها الأعين فهناك سمعتُ التناهيد التترى ، و الآهات الكثرة حدَّ شعوري باكتظاظ المكان ، شعرتُ بضمور المفردة اللائقة و غياب النباهة اللغوية في حضرة اللوحة المتحدثة بطلاقة رغم الخرس البائن كتمويه.
فاللوحة المصنوعة من ألف شعور تصنع ألف شعور من لوحة