كيف نحول المظلومية إلى انتصار؟
كيف نحول المظلومية إلى انتصار؟
يحق لنا أن نتساءل: ماذا استفاد العالم من نضهة الحسين وتضحياته التي لا نظير لها في الوجود؟ ماذا استفادت البشرية ككل، وبماذا تتميز هذه الثورة عن الثورات الأخرى المعروفة عالميًا؟
سأتعرض لجزئية صغيرة جدًا من السؤال الأول في عشر نقاط وباختصار شديد، وقد أتطرق لجزئيات أخرى مستقبلاً -إن وفقني الله لذلك- مع أملي أن ينهض بهذه المهمة الجليلة من هو خير مني من المثقفين والعلماء والباحثين.
في أشهر تصريح له حول نهضة الإمام الحسين، يقول زعيم الهند ومحررها المهاتما غاندي: "تعلمت من الحسين كيف أكون مظلومًا فأنتصر". أي أن أحد الدروس العظيمة التي استفادها العالم منه هو كيفية إحراز الشعوب المضطهدة النصر بمظلوميتها، فلم نتعلم منه مجرد وجوب مقاومة الظلم، بل تعلمنا أيضا ضرورة التخطيط والسعي للإنتصار عليه. ولكن السؤال الكبير هو: كيف تتم صناعة هذا النصر مع عدم تكافؤ القوى؟
لقد سبقت نهضة الحسين وتلتها آلاف الثورات في جميع أصقاع الأرض، ولكنك لا تجد اليوم من يتفاعل معها بكل وجدانه كما يتفاعل المتأثرون بثورة الحسين الخالدة التي انتصرت على كافة الصعد التي رامها الحسين حيث ظلت صفحته بيضاء نقية، وترسخت جميع المبادئ الأخلاقية والدينية والسياسية التي أراد حفظها، وضمن استمرار ثورته للأبد، وسقطت دولة بني أمية تحت شعار "الرضا من آل محمد" بعد ثورات متعاقبة حركها دمه الطاهر ولم يُسقِط الحسين دولة بني أمية فحسب، بل أضحى اسمه مشعلاً ضخمًا يلهب عزائم طالبي الحرية، وينير دروبهم في ظلمات النضال الحالكة، ويمدهم بما يحتاجون من الفكر والحماسة.
إن كل هذا التأثير وهذا الانتصار كان بأسباب تبعها الحسين –إضافة للجانب الغيبي الكبير والتأييد الإلهي الذي لا ينكره أحد-، وهذه الأسباب هي ما يجب استكشافه من خلال التأمل في مواقف وكلمات الإمام الحسين وأنصاره لنقدم للشعوب المقهورة الحلقة المفقودة والخارطة المخفية بين المظلومية والنصر.
الإيمان بعدالة القضية التي يكافح من أجلها الإنسان هو أولى البنى التحتية لصناعة النصر وخصوصا عند حين يتطلب تحقيق النصر التضحيات الجسام. وأبلغ وأشجع كلمة سجلها التاريخ في هذا المجال قول علي الأكبر لأبيه الحسين: "أولسنا على الحقّ؟ فقال: نعم، فقال علي الأكبر: إذن لا نبالي أوقعنا على الموت أم وقع الموت علينا".
يقول الأديب المسيحي جورج جرداق: "حينما جنَّد يزيد الناس لقتل الحسين وإراقة الدماء، كانوا يقولون:كم تدفع لنا من المال؟ أما أنصار الحسين فكانوا يقولون لو أننا نُقتل سبعين مرّة، فإننا على استعداد لأن نقاتل بين يديك ونقتل مرة أُخرى أيضاً".
تخفق الكثير من النهضات والتحركات الحقوقية والسياسية لعدم وضوح أهدافها بشكل دقيق، فتكون جماهيرها عرضة للتشتت تحت وطأة ضغوط الطغاة وخداعهم السياسي وما يعرضونه من صفقات ومغريات. ولا يكفي أن تكون الأهداف معلومة لدى المظلومين فقط، بل يجب التركيز إعلاميا على تعريفها للعالم حيث يعمد الطغيان بإعلامه الضخم وعلاقاته الواسعة إلى تشويه أهداف أي معارضة له ويزيف طرقها ليعزلها عن العالم الخارجي فتصبح كفريسة في قفص يقضي عليها بصمت وسط الظلام لا مغيث لها ولا مطالب بحقها.
هكذا يعلمنا الحسين بإعلانه العام لأهداف خروجه على رؤوس الأشهاد ونفيه لمزاعم السُّلطة: "إني لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر".
لقد اخترقت نهضة الحسين حواجز الزمن واللغة والعِرق والدين والقومية لتركيزها على المفاهيم الإنسانية العامة التي يتفاعل معها جميع البشر بلا استثناء لإيصال رسالتها وتبيين قبح ولا أخلاقية العدو. إن جميع الخلائق –وحتى قاتليه- تفاعلوا مع العطش والوحدة ومعاناة الأطفال ومشاهد الأخوة والوفاء والكرامة والشجاعة المنقطعة النظير حتى شكل الإمام الحسين جسر وحدة بين البشر بمختلف أديانهم وأعراقهم فأشادوا به وشاركوا في مراسيم تخليده.
باستخدام هذه المفاهيم نفَذ الحسين إلى قلوب الجميع حتى أعدائه عندما أوقف عدوانهم على نسائه وأطفاله –مؤقتًا- بمخاطبته لهم: "إن لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون المعاد فكونوا أحرارًا في دنياكم هذه وارجعوا إلى أحسابكم إن كنتم عُربًا كما تزعمون.. أقاتلكم وتقاتلونني والنساء ليس عليهن جناح فامنعوا عتاتكم وجهالكم وطغاتكم من التعرض لحرمي ما دمت حيًّا، فقال شمر : لك هذا".
إن من أخطر الأمور التي تثبت عروش الطغاة وتطيل أمد تسلطهم على رقاب الناس هو تلبّسهم بشرعية مَّا وخصوصًا إذا جاءت باسم الدين. ويمكننا القول بأن من أكبر المكرمات التي قدمها الحسين للبشرية إسقاط الشرعية عن كل حاكم ظالم فالشرعية كل الشرعية للعدالة والحق والحرية فهذا ما جاء به الإسلام الذي رفض حكم الأباطرة والأكاسرة و حارب جور النظم الاستبدادية.
هذه رسالة الحسين التي يجب أن نرسخها عند جميع البشر لاسيما المسلمين الذين هم أولى بالحسين ولكنهم أبعد الناس عنه اليوم لسماحهم لشراذم قليلة بالتحكم في مصير الأمة واستعبادها. قال الإمام الحسين: "يزيدٌ رجلٌ فاسقٌ، شاربٌ للخمر، قاتلٌ للنفس المحترمة، معلنٌ للفسق، ومثلي لا يبايع مثله" فلم يحصر التصدي بنفسه بل عممه على جميع الأحرار. وقال: "فأصبحتم ألبا لأعدائكم على أوليائكم، بغير عدل أفشوه فيكم، ولا أمل أصبح لكم فيهم.. فسحقا لكم يا عبيد الأمة، وشذاذ الأحزاب، ونبذة الكتاب، ومحرفي الكَلِم.. وَيْحَكُم أهؤلاء تعضدون، وعنا تتخاذلون؟!".
السلمية –ما أمكن- مفتاح النصر على الظلم والعدوان فقد لاحظنا عبر التاريخ سرعة وضخامة انتصار التحركات السلمية مقارنة بالتي اتخذت سبيل العنف مختارة كانت أم مجبرة. لقد سلك الحسين جميع الطرق السلمية في دفاعه المقدس عن الدين والمظلومين من حوارات مع ممثلي السلطات لثنيهم عن التنفيذ الأعمى للأوامر الجائرة، وخطابات لمؤيدي الطغاة لإيقاظهم وتنبيههم، ولجوء إلى الأطراف المقبولة أو المحايدة للإنصاف "وإن كذبتموني فإن فيكم من إن سألتموه عن ذلك أخبركم.. سلوا جابر بن عبد الله الأنصاري، سلوا زيد بن أرقم، سلوا سهل بن سعد الساعدي، سلوا أنس بن مالك، كلهم يخبرونكم بذلك"، ونبذ العنفذ حتى مع أشد الاستفزازات حتى اضطر في نهاية المطاف للقتال دفاعًا عن النفس.
إن أسهل وأسرع طريقة للطغاة للتهرب من جرائمهم وانتهاكاتهم هي النفي والإنكار خصوصًا إذا كانت الظروف لا تساعدهم على التصريح بمسؤوليتهم عنها كما هو الحال في أكثر دول عالم اليوم حيث يلاحق المجرمون من قبل المحاكم الدولية والمنظمات العالمية، ولذلك ينبغي لأي شعب أو فئة مضطهدة أن يخصصا قسما كبيرًا من جهودهما لتوثيق ونشر الأدلة الملموسة التي تدين الطغاة خصوصًا مع توفر وسائل الاتصال الحديثة والهواتف الذكية المزودة بآلات التصوير لدى الجميع تقريبًا. وهذا درس كبير آخر من دروس الحسين حيث أخرج رسائل كتبها بعض المشاركين في قتاله يطالبوه فيها بالقدوم ليبايعوه ردًا منه على تكذيبهم لذلك.
عندما يعجز الظلمة عن إنكار أصل الجريمة، فإنهم يعمدون إلى إخفاء هوية الجناة وإلقاء التهمة على الآخرين أو تسجيلها ضد مجهول، وعندما تضيق عليهم الدائرة أكثر يزورون الأسباب التي تقف وراء هذه الجرائم ويلفقون الذرائع لجعلها تبدو مقبولة ومنطقية وعادلة، وهذا يجب أن يأخذ نصيبه الوافر من التوثيق أيضأ لفضح هويات الجناة ولفضح دوافعم كذلك. وهذا الدور قام به الحسين في خطاباته كقوله: "يا شيعة آل أبي سفيان"، كما رفع رضيعه الذي ذبح بدم بارد شاهدًا لا تحجبه الأكاذيب ولا التدليس، واضطلع بهذا الدور أيضًا سبايا أهل البيت حيث حرصوا على إيصال الحقيقة بتفاصيلها إلى جماهير الأمة.
تقزيم الطغاة وقدراتهم في عيون الناس كفيل بتحريك المزيد من الجماهير للدخول في ميدان مقاومة الظلم فأقصى ما يستطيع الطغاة فعله هو القتل ثم يقفون عاجزين عن مواجهة آثار طوفان دماء الشهداء الذي سرعان ما يطيح بهم ويجرفهم إلى مزابل التاريخ حتى مع قلة عدد هؤلاء الشهداء نسبة لعدد الخانعين عادة.
يقول المستشرق الألماني مار بين في الحسين: "أثبت هذا الجندي الباسل في العالم الإسلامي لجميع البشر أن الظلم والجور لا دوام له، وأن صرح الظلم مهما بدا راسخًا وهائلاً في الظاهر إلا أنه لا يعدو أن يكون أمام الحق والحقيقة إلا ريشة في مهب الريح".
لتصل الرسالة واضحة وسريعة إلى الجميع، يجب إشراك جميع الشرائح الاجتماعية والفئات العمرية في حراك المظلومين، وقد شارك مع الحسين الأطفال والنساء والشبان والشيوخ وأنصار من أديان وفرق وبلاد مختلفة كما شارك معه السادة والفقراء والقادة الكبار كالحر الرياحي وأعاظم الفقهاء كالصحابي الجليل حبيب ابن مظاهر الأسدي.
غالبًا، لا يمكن التخلص من الطغيان إلا بعد سنوات طويلة ومريرة من الصراع، ولذلك فإن الضمان للإنتصار هو التخطيط لاستمرارية النهضة ومستقبلها عبر زرع رسالتها في الجماهير وتربية أجيال من القيادات والعناصر التي تحمل على عاتقها مواصلة الكفاح، وهذا ما قام به الإمام زين العابدين وسبايا كربلاء.