عندما يحكم الإسلاميون
هل سيحافظون على: رؤاهم، وولاء الشارع لهم؟
عندما يحكم الإسلاميون، هل سيحافظون على: رؤاهم، وولاء الشارع لهم؟
نحن حالياً في العام ١٤٣٣ هـ، والتساؤل الذي نطرحه هنا اليوم، يأتي ضمن هذه الحقبة التاريخية والزمنية وملابساتها تحديداً. وهي بلا شك مرحلة ذات صفات وخصائص فارقة تجعلها تتمايز بقوة عن جميع الفترات التاريخية السابقة لها. فهذا هو عصر العلم والتقنية وحقوق الإنسان والديمقراطية وانفجار المعرفة وانتشار الشبكات العنكبوتية والرقمية وعصر مختلف أجهزة المواصلات الحديثة المتميزة ومختلف التقنيات المتطورة ... الخ، في مقابل عصور الجهل والاستبداد والظلام والفقر والنقص والحرمان والمحدودية. وهذا يجعلنا بالتأكيد هنا في مرحلة زمنية لا سابق ولا نظير لها من حيث تأثير العلم والتقنية على السياسية، مما يوجب أن نأخذ في الحسبان بلا شك، كل تلك المتغيرات الهامة بقوة، عند نقاش مصير أو مآلات أي تحرك أو حركة مجتمعية وسياسية إسلامية أو غير إسلامية معاصرة، تبرز للسطح في هذا العصر، وفي هذا الزمن.
وهنا قبل الولوج في صميم هذه المقالة، والحديث عن مآلات سيطرة الإسلاميين على الجماهير في عصر الربيع العربي هذا الذي نعيشه اليوم، يمكنني هنا القول في المقدمة، أن أي تصور هنا أو إيحاء بأن الإسلاميين والإسلام السياسي، الذين فتحت لهما أبواب اليوم على مصراعيها، لتسلم مقاعد في عروش الحكم المعاصرة، كانا عبر كل القرون المنصرمة السابقة، معزولين عن كراسي الحكم. وهو هنا ما قد يطرحه بعضنا أحياناً اليوم بشكلٍ ما، فيوحي لنا ذلك أو لبعضنا، بأن الإسلاميين والإسلام السياسي، لم يصلا أبداً للحكم في يومٍ ما في عالمنا العربي والإسلامي عبر تاريخنا الإسلامي الطويل، إلا في ربيعهم العربي هذا. وهذا إنما هو في الحقيقة، إيهام أو توهم، ولبس أو تلبيس، أو في الحقيقة هنا، بهدوء وبعيداً عن الرغبة في الإثارة واستعمال المبالغة، كلام غير دقيق وغير متريث وغير موضوعي وليس في محله. فالإسلام والقوى الإسلامية التقليدية القديمة، ظلا دائماً قوى قوية، لم يعتزلا كرسي الحكم أبداً طوال القرون السابقة. بل ظلا موجودين فوق كراسي الحكم، أو في مفاصل الدولة الحساسة، على طول الخط. وإن كانت هناك عزلة قد ظهرت في تلك الفترات التاريخية السابقة، أو ممارسات مبتورة للدين، فلا يمكن فهمها بعزلها عن واقعيتها، وعن ظروف الحكم وآلياته وملابساته ونضج الجماهير والحكومات في تلك الفترات السابقة من جهة، وطبيعة القناعات والمفاهيم العقائدية التي وجدت في حينه، ومنها عقائد المرجئة، التي ولدت بعد مقتل عثمان وعلي، ومفاهيم ودلالات أحاديث ذات دلالات سياسية "علمانية" أو بعبارة ألطف "واقعية"، كحديث تأبير النخيل مثلاً - الذي لازال مستنداً شرعياً لحكم ديني أرضي عقلي، غير ملتزم في كل تفاصيله بنصٍ ديني، قد يراه بعضنا لذلك مبتوراً أو علماني -، بالإضافة لطبيعة الإسلام الذي كان الناس والمتدينون يتدينون به في تلك الفترة، وما يمكنه أن يفرز من أنظمة حكم في حينه، من الجهة الأخرى.
لقد وصل العباسيون للسلطة على أكتاف الشعارات الدينية - كما يصل بعض الإسلاميين للسلطة اليوم، على أكتاف الشعارات الدينية -. ولا يعنينا هنا كثيراً ماذا حصل فيما بعد (بعد الثورة)، حين سيطر العباسيون على السلطة الحقيقية، ليصبحوا فيما بعد في عزلة حقيقية أو شبه حقيقية عن تلك الشعارات الدينية، التي رفعوها من قبل. لأن ممارساتهم اللاحقة للسلطة، لا يمكن أن تنفي كونهم في البدء حركات إسلامية دينية، خرجت باسم الدين في مقابل سلطة دولة ظالمة، أراد الناس أو شريحة واسعة منهم، إسقاطها وتبديلها بحكم ديني مثالي أو شبه مثالي - كما يرجوا الإسلاميون اليوم ذلك تماماً -، أي خرجت تلك القوى باسم الدين كما يحصل اليوم، ساعية للوصول إلى السلطة المتصورة بشكل مثالي من قبل الجمهور والثوار عبر الشعار، بغض النظر هنا عن النوايا والتفاصيل، التي لم يمكن اكتشافها في البدء من قبل مخلصي الثوار وربما جميعهم، وأياً كانت في النهاية النتائج التي تم تحقيقها، وشكل السلطة التي وصلت إليها تلك القوة فيما بعد.
وأيضاً، عندما نعود هنا للنموذج التركي العثماني، باحثين عن عزلة الإسلام والإسلاميين عن السلطة، فسنجد بعيداً عن طبيعة الظلم والممارسات الاستبدادية الواقعية التي مارسها ذلك الحكم العثماني، أن الخليفة كذلك كما في الحالة العباسية - وعلى مستوى الشعار -، وهو هنا ما يؤكد كذلك هيمنة الفكر الديني وتياراته هنا أيضاً، هو "ظل الله في الأرض"، كما تغنى بهذا الحديث والشعار المعروف والمشهور الحكام العثمانيون، وكان أيضاً من مظاهر الطابع الديني التي اتسمت بها كذلك الدولة العثمانية، العناية الفائقة التي أبداها السلاطين بإنشاء العديد من المساجد الكبرى التي غدت رمزا ً مجسدا ً للفن المعماري العثماني، ولازالت شاهدة كذلك على ذلك التاريخ الديني، وعلى دينية الدولة، حتى اليوم. وخلاصة المعنى المراد هنا، هي أن الإسلام السياسي، الذي قد يتصور أو يوحي بعضنا بعزلته عن أنظمة الحكم عبر تاريخنا الإسلامي الطويل، لم يكن في الحقيقة بمعزل في يومٍ ما - غالباً - عن أجهزة الحكم، ولا عن ذلك التاريخ السياسي والحياة السياسية الإسلامية، الماثلة في حينه.
وأنا لا أعتقد هنا، أن أي أحدٍ منا اليوم، يميل أو يحبذ أو يتبنى النقاش في كون القضاء، وهو جهاز الحكم الحساس في الدولة التقليدية، في ذلك الوقت خصوصاً، الذي كانت فيه الدولة بسيطة جداً في بنيتها وأجهزتها ودورها، كان هو الحاكم في غالبية إن لم يكن - تجاوزاً - في كل أنظمة الحكم القديمة حتى اليوم، في الدول العربية والإسلامية المتعاقبة، منذ العهد النبوي وحتى يومنا هذا، ولو أقلاً في الظاهر، ومن بعد سلطة ملوك وحكام الدول العربية والإسلامية المريضة.
وجل ما في الأمر حقاً، وهو ما أريد قوله هنا، هو أن أنظمة الحكم تلك، لم تكن تعبر بشكل حقيقي وصحيح عن الشارع الإسلامي، وكامل آرائه وتوجهاته وحاجاته للعدالة والمساواة والإنصاف، فقط لا غير. أي أن الحالة السياسية الدينية في الواقع، لم تخرج كثيراً عن كونها دائماً وأبداً، حالة شعاراتية وتزييف لإرادة ووعي الجمهور في الساحة الإسلامية الجماهيرية.
وهنا، عندما نعود للحركات الإسلامية المعاصرة، الصاعدة في زمن الربيع العربي، فلا يمكننا عزلها تماماً تحت حالة الحماس والتفاؤل المفرط، عن أن تصل لحالة شبيهة كثيراً أو قليلاً بتلك الأنظمة الإسلامية المزيفة القديمة، من حيث التصاقها بالدعاوى والشعارات الدينية، وعزلتها في نفس الوقت، عن إسلاميي الشارع وإرادتهم وثقافة الناس خصوصاً العوام أو الشريحة العريضة منهم - التي ظلت تضحي طوال الدهور، دون فائدة تذكر -، فيما بعد ممارسة تلك الحركات الدينية للحكم، ومحاولاتها تطبيق أشكال من الحكم الديني، تتلاءم مع هويتها الدينية، وما يريده منها الجمهور.
وهنا، فإن الحديث عن، تهذيب عملية الحكم وممارسة السلطة والدخول في العملية الديمقراطية، للحركات الإسلامية الصاعدة لأروقة الحكومات، الذي يتم الحديث حوله في هذه الفترة الزمنية من قبل بعض المثقفين والسياسيين والواعين بشكل متفائل جداً، لا يخلي الساحة من فرص للإشكالات والتساؤلات الهامة والجادة، حول مآلات تلك الحركات الإسلامية المعاصرة، فيما بعد هذا التفاؤل، وهل ستظل تلك الحركات وقياداتها حقاً، مرتبطة كثيراً لاحقاً بالشارع ومهيمنة عليه، كما كانت وكما هي اليوم، أم أنها بعد الحكم ستفقد كثيراً من بريقها ولمعانها وولاء الجماهير السابق لها، ذلك الذي امتلكته تلك الحركات يوماً ما، حين كانت ضمن تيارات الثورة وحالة الحماس والمعارضة، خصوصاً بعد ما سيعتريها بالضرورة من تهذيب وتشذيب على كلٍ من صعيدي الممارسة والفكر السياسي والديني في الزمن المعاصر؟.
والسؤال هنا بطريقة أخرى، هو: هل ستظل الجماهير المسلمة راضية عن أشكال الحكم التي ستفرزها عمليات الديمقراطية المعاصرة في جميع أو بعض دول الربيع العربي الجديدة، والتي يشارك فيها الإسلاميون اليوم بقوة، أم أن تلك الجماهير ستصبح رافضة ومعارضة أو ربما حتى مقاومة بقوة وعنف وبشكل واسع ربما لكل تلك الحركات الدينية السياسية التي تمارس الديمقراطية وتقبل بها وتقبل بالتراخي في تطبيق بعض مفاهيم الشريعة غير مبالية بالدين في تفاصيله المختلفة حين تدخل في مداهنات العملية السياسية الديمقراطية فتقبل بها، أو تلك التي ستقبل بالتدرج في تطبيق الدين أو تطبقه بشكل جزئي آخذة في الحسبان ظروف المرحلة، أو تلك التي ستكون مؤمنة بفكر ديني حداثي يبتعد كثيراً عما هو موجود بشكلٍ واسع في الساحة لدى الجماهير؟ وما هو مدى الوعي والنضج الذي ستكتسبه الجماهير المسلمة بعد تجارب ممارسة الحركات الإسلامية للسلطة في زمن الربيع العربي، وما قد ينتجه هذا الربيع من ديمقراطيات حديثة وليدة، إن لم تتحول القوى الشعبية الإسلامية بعد التجربة، لقوى رفض منتجة لتيارات المعارضة والممانعات، وربما لأشكالٍ من المقاومة المسلحة ولو المؤقته؟.
لاشك بالتأكيد، أن المرحلة السياسية الراهنة، وهي (التحول السياسي نحو الديمقراطية) في الفترة المعاصرة، تختلف بقوة عن جميع التجارب الإسلامية السياسية التاريخية السابقة لتحولات السلطة والانقلابات الثورية عليها، والتي كان فيها الاستفراد بالحكم هو سيد الموقف في تلك المرحلة، ونتيجتها الحتمية، أو الأقرب للحتمية. كما أن الظروف المعاصرة وملابساتها المختلفة تفرض بلا شك مسارات جديدة مختلفة تقترب بقوة من إقرار واقع الدولة المدنية وما تفرضه من ممارسات ديمقراطية، يكون فيها الكثير من التطوير والإصلاح والتغيير بلا شك نحو الأفضل، وإن طال الزمن.
ونحن هنا أيضاً لسنا غافلين عن، أهمية النجاح في مسارات عمليات التنمية، وتداعياتها على القبول بالممارسات السياسية، كما هو واضحٌ في النموذج التركي، كنموذج لخلق حالة من الرضى وتأييد الجماهير، وعن تأثيرات ذلك في المعادلة، وذلك بعيداً عن جدليات دينية أو مدنية الدولة، ودور الحركات الدينية، فيما بعد ربيعنا العربي هذا، والتي قد تغرق فيها الحركات والتيارات الدينية أكثر، في حال فشل مسارات التنمية، وصعود التأزمات المعيشية، التي يمكن أن تأزم بالتبعية المواقف الفكرية والسياسية، وتسهم في تحريض التفسيرات الدينية السلبية.
لكن، حتى لو استبعدنا هنا تأزم تلك الحالة التنموية والمعيشية من المعادلة، فهل يمكن تماماً عزل قيمة نضج الشارع ووعيه وطبيعة فهمه للدين عن المعادلة، والتي يبدو أنها كقيمة في بقية عالمنا الإسلامي خصوصاً العربي محل نقاشنا هنا، لا تتفق كثيراً مع ذلك النموذج التركي، على مستوى الشارع أقلاً، هذا علاوة على أن مآلات التنمية متفاوتة وتكتنفها كثيرٌ من العقبات في الدول المختلفة، ما يضاعف بقوة هنا من فرص صدام الشارع الإسلامي مع قياداته الإسلامية الناهضة، مستقبلاً.
وأنا هنا طبعاً، لم أطرح ما سبق من باب التشاؤم، المفرط كثيراً. لأنني في قرارة نفسي، مؤمنٌ بواقع التطور وبحتميته، وبأن التغيرات نحو الديمقراطية هي واقع وضرورة يفرضها وسيفرضها العصر الحاضر، وما فيه من أدوات وإمكانيات وتقنيات ووعي. لكن من جهة أخرى، فالإشكالات السابقة حقيقية واقعية، وذات معناً. وأقل ما قد تعنيه هنا، هو أن العقبات التي قد نتغاضى عنها ونهملها اليوم، في ظل التفاؤل المفرط، قد تنفجر في وجه ثورات العالم العربي والإسلامي بسرعة لاحقاً، ليدخل بعض أو ربما كل تلك التجارب السياسية الإسلامية المعاصرة، في مخاضات صعبة، قد تطيل واقعاً من أمد تحولاتنا الإيجابية نحو الديمقراطية في العالم الإسلامي والعربي، بشكلٍ قد لا نتوقعه ... أو لا نرجوه ولا نتمناه، مما قد يكشف عن خلل وقصور في وعينا الحاضر، وفهمنا لكامل المعادلة - والتي بدأت بعض ملامح الصراعات الدينية فيها تتضح منذ اليوم، في حين يحاول بعض الإسلاميين عكس تلك الصورة السلبية لصراعاتهم، بالميل للسلم، والاعتراف والاهتمام بالحرية -، وهو قصورٌ يستتبع بالطبع قصوراً في الفعل والدور المطلوب منا هنا.
ويبقى في النهاية هنا، أن نذكر بما قاله الأديب الراحل نجيب محفوظ، عندما سأله أصدقاؤه عن صعود التيار الدينى في المجتمع، فقال: "صعود الإسلاميين من التجارب التي يجب أن تخوضها الشعوب"، فهذا هو حقاً الزمن المناسب لهذا الصعود، ولنضج تلك التجارب الإسلامية.