إنّ التربية الروحية والإيمانية , تربّي الإنسان تربية ثورية إصلاحية أصيلة , حتى ولو لم تكن الظروف مهيّأة تمامًا إلى الثورة والتغيير ... فلو افترضنا أنّ إنسانًا صالحًا عاش في جزيرة نائية لوحده فكيف نتصور أن يكون هذا الإنسان ؟؟؟ إنّه يعيش بعقله لمستقبله... يعمل لآخرته ... يناضل ويكافح ... حتى ولو كان لوحده... أنه حقًا وصدقًا ثوري أصيل رغم أن الظروف لا تحتاج إلى الثورة والتغيير ( بالمفهوم الشامل الذي أقصده هنا ) !!!
لأن رسالات الله " عز وجل " هي التي جعلته ثوريًا أصيلاً ... لأن هذا الإنسان يفكر في الآخرة لا في حطام الدنيا الزائلة ... يفكر في الآخرين لا في نفسه وأنانيته ... بالرغم من أنّ الآخرين لا وجود لهم في تلك الجزيرة النائية ...
ولكن التربية الروحية والإيمانية هي التي جعلته إنسانًا أصيلاً صادقًا ويحمل روحًا صافيةً مؤمنةً بخالقها وخالق السموات والأرض وكل المخلوقات ... فالمؤمن الصادق دائمًا تراه يحب الناس ويحترمهم ويحسن إليهم ومن ثم يجاهد من أجلهم ومن أجل مستقبلهم وسعادتهم بل تراه أيضًا يرفق ويحسن بالكائنات الأخرى من حيوانات أليفة ونباتات جميلة ويأنس بهما و يرتاح إذا نظر إليهما في كل لحظة من لحظات وجوده وجلوسه وقيامه وحركاته وسكناته ...
حتى أن الأحاديث الشريفة والسيرة النبوية العطرة كثيرًا ما تطالبنا بمواقف إنسانية رفقًا وإحسانًا بالحيوان فحديث الرسول الأعظم يؤكد في امرأة : أنّها دخلت النار في هرة حبستها فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها حتى تأكل من رزق الله سبحانه وتعالى ومرة أخبر ( ص) : عن رجل دخل الجنة بسبب كلب عطشان يلهث فسقاه !!!
ومرة كان الرسول الأعظم مع الصحابة الكرام في سفر وعندما حطوا الرحال خلال المسير تحت ظل شجرة وجد أحد الصحابة أفراخًا صغيرةً في عشٍ فأخذها وعندما عادت أمها راحت تزقزق كالمصروع فالتفت الرسول الأكرم إلى أصحابه قائلاً : " الله الله من فجع هذه بأولادها فقام الذي أخذها وقال : أنا يا رسول الله فقال : ردها إليها رحمك الله " .
هكذا المؤمن ذو القلب الرحيم لا يستطيع أن يؤذي الحيوانات أو حتى الأرض التي يعيش عليها ولا النباتات وهل رأيت مؤمنًا بالله تعالى يرى في الأرض نبتة جميلة فيقطعها عبثًا ثم يرميها ... كلا وألف كلا فالمؤمن الصادق لا يفعل ذلك في حياته !!!
يقول ربّنا سبحانه وتعالى في كتابه الكريم : ﴿ ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفًا وطمعًا إن رحمة الله قريبٌ من المحسنين ﴾ .
نلاحظ في حياة الأنبياء و الأئمة الأطهار الكثير من القصص و المواقف التي تبين إحسانهم ورفقهم حيث استخدموه كأسلوب فعال في كسب الأحبة وخصوصًا في اكتساب الأعداء ليصبحوا أصدقاء فيما بعد... فكم من عدوٍ لدودٍ انقلب إلى أخلص المخلصين للأئمة الأطهار بمجرد الإحسان إليه تصديقًا للآية الكريمة : ﴿ ولا تستوي الحسنة ولا السّيّئة ادفع بالّتي هي أحسن فإذا الّذي بينك وبينه عداوةٌ كأنّه وليٌّ حميمٌ * وما يلقّاها إلا الّذين صبروا وما يلقّاها إلا ذو حظٍّ عظيمٍ ﴾ .
هكذا كان الرسول الكريم والرحيم حيث كان أحد جيرانه عدوًا لدودًا حاقدًا عليه فكان يرمي بالنفايات يوميًا على دار الرسول وفي طريقه إلا أن الرسول كان يزيلها عن بابه ويدخل دون ضجرٍ أو غضبٍ وذات يوم عندما عاد إلى المنزل لم ير تلك النفايات والأوساخ فعلم أن هناك سببًا منع عدوه من ذلك فقد يكون مريضًا فعلاً ذهب إلى داره وزاره حينها استغرب العدو صنيع هذا الرسول العظيم والكريم والرحيم ( ص) وأخذ يبكي نادمًا على ما فعله به ثم قال ( أشهد أن لا إله إلا الله وإنّك رسول الله ) وهكذا استطاع الرسول بإحسانه ومعاملته الحكيمة أن يكسب هذا العدو وأصبح من المسلمين والموحدين بالله تعالى .
ومن قصص الأئمة الأطهار ومواقفهم الحكيمة : منها حكاية رجل من أهل الشام يدعى " عصام بن المصطلق " ورد المدينة المنورة فرأى رجلاً ذا جلال وهيبة فلفت نظره ... فسأل عنه فقيل : هو الحسين بن علي بن أبي طالب يقول عصام : فأثار من الحسد ما كان يخفيه صدري لأبيه من البغض والكره ... فقلت له : أنت ابن أبي تراب ؟؟؟ فقال : نعم , قال : فبالغت في شتمه وشتم أبيه ..
فنظر إليّ نظرة عاطف رؤوف .. فقال : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم .. بسم الله الرحمن الرحيم : ﴿ خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين * وإمّا ينزغنّك من الشّيطان نزغٌ فاستعذ بالله إنّه سميعٌ عليمٌ * إنّ الّذين اتّقوا إذا مسّهم طائفٌ من الشّيطان تذكّروا فإذا هم مبصرون * وإخوانهم يمدّونهم في الغيّ ثمّ لا يقصرون ﴾ .
ثم قال : خفض عليك .. استغفر الله لي ولك .. إنّك لو استعنتنا لاعناك ولو استرفدتنا لرفدناك ولو استرشدتنا لأرشدناك . قال عاصم : فتوسم مني الندم على ما فرط منّي . فقال : ﴿ لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الرّاحمين ﴾ . أمن أهل الشام أنت ؟؟؟ قلت : نعم , فقال : شنشنة اعرفها من اخزم حيانا الله وإياك .. انبسط إلينا في حوائجك وما يعرض عليك تجدني عند أفضل ظنّك إن شاء الله . قال عصام : فضاقت عليّ الأرض بما رحبت ووددت لو ساخت بي .. ثم سللت منه لواذًا وما على الأرض أحب إليّ منه ومن أبيه .
وصدق الشاعر إذ يقول :
يزيد سفاهةً وأزيد حلمًا .............. كعود زاده الإحراق طيبا
وختامًا وفي نهاية المطاف .. لا يسعني في هذا المجال إلا أن أتوقف قليلاً وأتأمل جيدًا إلى مواعظ نبي الله عيسى ابن مريم لبني إسرائيل ناصحًا لهم : " وأنا أقول لكم صلوا من قطعكم وأعطوا من منعكم وأحسنوا إلى من أساء إليكم وسلّموا على من سبّكم وأنصفوا من خاصمكم وأعفوا عمّن ظلمكم كما أنّكم تحبّون أن يعفى عن إساءتكم فاعتبروا بعفو الله عنكم " .
خريج جامعة الملك فيصل بالأحساء التخصص:لغة عربية العمل:معلم يمارس الكتابة الذاتية