الاختلاف ومقتضيات الوحدة
لايوجد مجتمعا إنسانيا يخلو من الاختلاف فطبيعة الحياة ومسيرتها وحركتها تنتج الاختلاف، والاختلاف حقيقة قائمة بين الجماعات الإنسانية يكون بين الأفراد والجماعات والدول، وهو ليس حكرا على مجتمع بذاته، وذلك جراء تباين العقائد واختلاف الرؤى والمواقف والبرامج، واختلاف الطموحات والتطلعات والمصالح.
وفي ظل التحولات الفكرية والثقافية التي تخوضها مجتمعاتنا، تبرز صورة الاختلاف بشكل كبير وسط التيارات والتوجهات المختلفة على الساحة الاجتماعية، فتارة تقوى وتارة تضعف حسب طبيعة الفهم للتنوع الموجود وحسب القابلية للرأي والرأي المختلف بين الناس وبين الجماعات، وفي المجمل فإن الاختلاف له انعكاساته وصوره الإيجابية على حياة الفرد والجماعة ففيه استثارة لدفائن العقل، وتحفيزا للمرء على مواصلة البحث، وفيه إمتحان لنقاء السريرة ومعرفة مدى الالتزام بالصدق والإنصاف وحسن الخلق، ولذلك تحدث عنه قائد البشرية نبينا محمد عندما قال: «اختلاف أمتي رحمة»، فالناس مختلفين في أفكارهم ورؤاهم وثقافاتهم، ومن غير الممكن أن يتماثلوا في الصورة والمضمون، ولو تم ذلك لأصبحوا أتباعا يسيّرون كالقطيع، قد أحجرت عقولهم، وتوقف إبداعهم وحركة تفكيرهم ونموهم، ولأصبح الإنسان خاضعا تبعيا مقدسا لما نشأ عليه من أفكار لايمكن المساس بها مهما تغير الزمن، وهذا يتنافى مع سنة الكون والحياة، فالاختلاف عامل ثراء وإثراء، متى ماتم ضبطه ضمن مسارات أخلاقية سليمة تعود بالنفعٍ العام والمشترك للجميع دون تمييز أو ظلم أو إقصاء فيه لأحد.
وإننا لنلحظ أنه كلما اتسعت مدارات الحوارات الثقافية والفكرية كلما تمددت معها مساحات الاختلاف، الأمر الذي يتطلب من كافة العقلاء في المجتمع العمل على الاستفادة من هذا الاختلاف واحتوائه عبر تحويله إلى إطارات حوارية سلمية تحفظ للإنسان كرامته وتصون للمجتمع حريته، ففي المجتمعات المتقدمة التي ترتقي بمستوى الحوار، حتى في الاختلاف فإنها تخضع إلى منهجية مقننة ومنظمة وإلى ضوابط قيمية وأخلاقية عالية يطلق عليها البعض ب " الصراع ألعقلائي " الذي لا يسمح بالاعتداء أو التطاول من طرف تجاه الآخر وبالتالي يوجد مساحة واسعة من الفهم والقبول والتناغم المشترك بين مختلف الأطياف المتحاورة.
أما في مجتمعاتنا وللأسف لازال الكثير من الأفراد أو الجماعات لا يتقن لغة الحوار ويجهل بالكثير من أدواته وأساسياته، فالبعض يحول الإختلافات «أيا كان نوعها» إلى صراعات داخلية وإلى نزاعات تعصف بكيان المجتمع وتهدد أمنه السلمي والوطني، إما لتصفية حسابات شخصية ومصالح فئوية أوبإصدار ردات فعل غير واعية باستخدام أساليب التحريض والتشكيك والإسقاط الذي قد يصل إلى حد التخوين، وللأسف خلف التستر بعباءة الدين، وهذا لايرتضيه أمرء عاقل أو إنسان حكيم، فما المصلحة مما يحدث؟ وإلى أين يؤدي المسير؟ وأي أفق أومستقبل يرجوه هؤلاء للأجيال القادمة؟ ومن هو المستفيد جراء هذه الصراعات؟
وعلنا ندرك جميعا ما حصل في أفغانستان وما حصل في العراق نتيجة للصراعات الداخلية كيف تحولت إلى أزمات وصلت إلى حد الاقتتال والتناحر وأدت إلى تصفيات دموية وتخريبية وكارثية كان نتاجها الانهيار العام للدولة والمجتمع.
فأمريكا عندما يئست أن تنتصر في العراق، رضيت بإثارة سياستها الهمجية " فرق تسد " ولم تكتفي باحتلال العراق، بل عملت على التفريق والتأليب بين العاملين والمؤثرين في الساحة، فلجأت إلى تشتيت قوتهم وضرب بعضهم ببعض لينشغلوا بأنفسهم ليسهل عليها السيطرة عليهم فيتمكن عملائها من أرض الرافدين، وتشتغل هي بمخططها في احتلال بقية دول المنطقة كما ترسم له، وهذا الأمر لايخفى على أحد.
إن المجتمع اليوم أخذ يتلمس الكثير من الآثار والمنجزات على الساحة الداخلية، فهو لا يجهل حركة القيادة الواعية بمسيرتها الدينية والفكرية والسياسية منذ انطلاقتها، وهو الذي عاش معها يترقب خطواتها وعاش منعطفاتها ولمس أثارها، وتطوراتها وتفاعلاتها، وعاش انعكاساتها في حياته اليومية.
فرويدا رويدا كفاكم قسوة بمجتمعكم أيها السادة فهو لا يحتمل كل هذه الطرق من الصراعات، وكفاكم ظلما لشخصيات ورموز صادقة ومخلصة في عطاءاتها تحملت الكثير من أجل هؤلاء الناس ومن أجل رقيهم وتقدمهم، فقيمة كل إمرء بعمله وعطائه، ومقارنة بالإنجازات والمشاريع والأعمال والبرامج التي تحققت على الأرض لاتكاد تحصى ناهيك عن وفرتها وتنوعها وتميزها وخيرها الذي عمّ وشمل الجميع، إن ماأودعته من تأثيرات خاصة وعامة حرّكت عصب المجتمع بكل طاقاته وأطيافه هي محل إعجاب واحترام وتقدير داخل الوطن وخارجه ولا يمكن تجاهلها أو نكرانها أو المزايدة عليها إلا لمن هو فاقد الوعي والبصيرة.
وإن المجتمع اليوم في مسيرته الإصلاحية بحاجة لصاحب الحوار الهادئ والعاقل والمتزن الذي يدل على الصدق وصفاء النية وحسن التصرف وعمق الرؤية، كما أن دليل نية المرء عمله ومواقفه وتفانيه وإبداعه ومسؤوليته تجاه مجتمعه وتجاه وطنه وأمته وإيمانه بالتقريب لا بالتفريق.
نعم التقريب بإعمال الفكر على يقظة عقول الناس ودعوتهم إلى تحرير أفكارهم، وليس تخديرهم وتغييب عقولهم بإشعال نار الفتنة والتفرقة وإن سنحت الظروف لإطفائها. فالحوار والتقارب حق مشروع وعمل وطني يستحق الإشادة والدعم، بعيدا عن النوايا المريضة وعدم المصداقية والمصالح الضيقة والحسد الإجتماعي، الأمر الذي يدعونا جميعا أن نتمسك به ونعمل من خلاله على نشر ثقافة التسامح والتعددية وقبول الآخر بالتركيز على المشتركات التي تجمع وحدة الصف لا التي تشتته.
أن مايجب أن ندركه جيدا أن هناك بعض الفئات المفلسة والتي تتوارى باسم الدين وبعضها باسم الحرص على هذا المجتمع ليس من مصلحتها استمرارية نهج الحوار وهذا التفاعل من الحراك، وقد لاتمتلك القابلية للتحول الفكري الذي تشهده الساحة لأنه لايتوافق مع مصالحها ويهدد قوالبها الفكرية الموروثة والمتوهم قداستها، هي ذاتها الفئات التي تعمل خلف الكواليس لنشر بذور الفرقة والتشتت وهي من تنفخ وتثير الدخان لتشعل لهيب الفتنة هنا وهناك، ساعية لجر وتحويل إختلافات المجتمع إلى أزمات تفتعل بها المشاكل وتؤلب بها الناس بعضهم على بعض وتشغلهم بمشاكل هم في غنى عنها، حتى تتسنى لها الفرصة للعبث بهذا المجتمع. فلنحذر أيها السادة إن أخوف ما يصيب هذه المنطقة تدخل العديد من العوامل والمؤثرات اجتماعية كانت أو سياسية قد تستغل الحدث وتتصيد في الماء العكر لتفجر هذه الصراعات مستفيدة من هذه الأجواء ونكون نحن مع الأسف من فتح لها الطريق ومنحها هذه الفرص.
ما أود التأكيد عليه هو الوحدة والالتفاف حول كل مايجمعنا ففي الوحدة قوة وانتصار لنا ولإرادتنا وقيمنا، إضافة إلى أنها مطلب شرعي ومطلب اجتماعي ووطني مهم للحفاظ على السلم الأهلي والاجتماعي، وإن قوتنا الحقيقية تكمن في الخروج من هذا النفق المظلم وهذه الأطر الضيقة باستشراف المستقبل المجهول، لنعرف قدر أنفسنا ونلزم حدودنا ولا نبخس المناضلين والمجاهدين حقهم ونقدر تضحياتهم فهم من نذروا أنفسهم لخدمة الناس والمجتمع والأمة وهم من عانوا وضحوا وتحملو الصعاب والأذى.
وإذا كان هناك ثمة ردة فعل، لتكن ردة فعل واعية تعبر عن غضب للوطن، نعم للوطن وماعاناه ولازال يعانيه من مشاكل أساسية ثقافية وإجتماعية واقتصادية وسياسية وما يلتهمه من فساد اجتماعي وسياسي واقتصادي، وإذا كان هناك انفعال، ليكن إيجابيا نستنزف فيه طاقاتنا بإستراد حقوقنا كمواطنين.
ولنتذكر قول الشاعر: تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسرا... وإذا افترقن تكسرت آحادا