الكتب وسطوة الشاشة المتوهجة

لهذه الشاشة المتوهجة للهاتف المحمول «وأشباهه» سطوة كبيرة على الكتب لا تعادلها أي سطوة أخرى. فهذه الشاشة، بما فيها من أضواء وألوان متنوعة وأصوات محببة وتصاوير متحركة، تفوقت على التلفاز، بما فيه من برامج وأفلام ومسلسلات متنوعة.

تلك السطوة جعلت من هذا الجهاز رغم صغر حجمه وسيلة جاذبة جدًّا لجميع الأعمار، دفعتهم للالتصاق به حد الإدمان، فاقدين القدرة على الشعور بالوقت. ومما ساعد هذه الشاشة على زيادة هيمنتها كثرة التطبيقات المتوالدة باستمرار، وجاذبيتها الأخاذة، فضلًا عن السهولة الفائقة والمرونة في استخدامها، وما قيل أيضًا من أن تصميمها في حد ذاته يؤدي إلى الإدمان عليها.

ورغم أن هذه الشاشة الساحرة أمكنها توفير آلاف بل مئات الآلاف من الكتب التي لا تبعد سوى نقرة زر على شاشته في ثوان معدودات، فإن قراءتها لم تكن أبدًا بمستوى توفرها مقارنة بما كان يقوم به الناس في عقود وقرون سابقة حين كانوا يشدون الرحال إلى بلاد بعيدة من أجل قراءة كتاب واحد لا أكثر سمعوا عنه. ورغم أنها سهلت البحث عن المعلومة عبر الأدوات المتعددة، التي لم تبدأ بمحركات البحث ولم تنته بالذكاء الاصطناعي، فإن ذلك لم ينعكس أبدًا على بحث الناس عن المعلومة الجادة والعميقة، واقتصر البحث عن أمور سطحية في الغالب.

وحتى حينما يقرر أحدنا القراءة فإن القراءة اليوم لم تعد كالقراءة بالأمس؛ حيث قلل سحر هذه الشاشة من القدرة على التركيز والقراءة العميقة في مقابل القراءات السطحية والسياحية والتصفح السريع الذي لا يمكن معه - من دون أدنى شك - استيعاب ما يُقرأ بشكل كاف. وحتى إن حاول القارئ الاندماج في القراءة فإن كثرة المشتتات الإلكترونية، المتمثلة في الرسائل والإشعارات، تكدّر عليه صفو القراءة، جاذبة إياه بالإغراء نحو أمور أخرى أكثر تفاهة وأقل فائدة.

هناك بالطبع إيجابيات كثيرة جدًّا لهذه الشاشة، ليس أقلها ديناميكيتها حتى فيما يتعلق بالقراءة الرقمية، وإمكانية التشارك فيها مع آخرين، حتى في النصف الآخر من الكرة الأرضية، دون مغادرة المقعد الوثير، وإمكانية الحصول على أي كتاب بعد مجرد لحظات من صدوره. وهكذا يمكن للقارئ بقليل من التخطيط وكثير من الإرادة أن يحصل على إيجابيات هذه الشاشة ويقلل من سلبياتها، في إطار سعي متواصل للمساوقة بين مغناطيس الشاشة ورائحة أوراق الكتاب.