شهر رمضان.. ولادة الروح من جديد
في حيٍّ دافئ، حيث تتقارب البيوت وتتعانق الأرواح، كان ”سالم“ ينتظر شهر رمضان كمن ينتظر لقاءً طال اشتياقه إليه. لكنه قرر هذا العام أن يكون رمضان مختلفًا، ليس فقط بالصيام، بل بأن يكون بداية جديدة لقلبه وروحه.
مع أول أيام الشهر الكريم، شعر سالم بنداء داخلي يدعوه للتقرب إلى الله، ليس فقط في أوقاته المعتادة، بل في كل لحظة من يومه. بدأ بتجهيز زاوية عبادته، كأنها موطن لقلبه الباحث عن الطمأنينة. اشترى سجادة صلاة جديدة، وحين سجد عليها لأول مرة، شعر وكأن الأرض تضمّه بحنان، تحمل روحه إلى عالم من النور. كان بجانبها مصحف ذو حروف كبيرة، يقرأ فيه بتمعّن، مستشعرًا كل آية وكأنها تخاطبه وحده.
﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ﴾ «البقرة: 185»
كان يدرك أن الصيام ليس امتناعًا عن الطعام فقط، بل هو جوعٌ للروح إلى الصفاء، وتعطّشٌ للقرب من الله. أراد أن يكون علمه في الدين نورًا لنفسه ولمن حوله، فاختار كتابًا عن أحكام الصيام، وبدأ يقرأ فيه بعد صلاة الفجر. كل ليلة، كان يجلس مع أسرته على مائدة الإفطار، لا ليشاركهم الطعام فحسب، بل ليشاركهم نور المعرفة، فتتحول وجبتهم إلى مجلس ذكر. ذات مساء، أخبرهم عن حديث النبي ﷺ: ”لو يعلم العبد ما في رمضان لود أن يكون رمضان السنة“ «1».
نظر إليه والده مبتسمًا وقال: ”يا بني، عندما تذوق الروح لذة القرب من الله، يصبح رمضان حياة بأكملها، وليس مجرد شهر في السنة.“
لكن سالم لم يكتفِ بذلك، فقد أيقن أن العبادة ليست في العزلة، بل في العطاء. قرر أن يجعل كل يوم من رمضان شاهدًا على كرمه، فكان يضع مبلغًا صغيرًا للصدقة، مهما كان بسيطًا، لكنه يمنحه بقلب ممتلئ بالحب. ذات يوم، بينما كان يسير نحو المسجد، رأى رجلًا مسنًا يجلس وحيدًا عند الإفطار، فتذكر قول الإمام الصادق : "أما العلة في الصيام ليستوي به الغني والفقير، وذلك لأن الغني لم يكن ليجد مس الجوع، فيرحم الفقير، لأن الغني كلما أراد شيئا قدر عليه، فأراد الله عز وجل أن يسوي بين خلقه وأن يذيق الغني مس الجوع والألم، ليرق على الضعيف ويرحم الجائع «2».
اقترب منه بهدوء، وقدّم له تمرًا وكوب ماء، ثم جلس بجواره، يتحدث معه ويستمع إلى حكايته. لم يكن مجرد طعام يقدّمه، بل دفء إنساني، وكأن قلبه وجد في العطاء ما كان يبحث عنه.
وفي كل ليلة، حين كان الجميع يغفون، كان سالم يجلس تحت ضوء القمر، يرفع يديه إلى السماء، يناجي ربه بقلب منكسِر، يبوح له بأسرار روحه، ويرجو منه أن يمحو ما مضى، ويهديه لما هو خير. صار يردد الدعاء: ”أنا يا رب الذي لم أستحيك في الخلاء ولم أراقبك في الملاء، أنا صاحب الدواهي العظمى، أنا الذي على سيده اجترا، أنا الذي عصيت جبار السما، أنا الذي أعطيت على جليل المعاصي الرشا“ «3».
في تلك اللحظات، أدرك سالم أن رمضان لم يكن مجرد وقت مرّ عليه، بل كان ولادة جديدة لروحه. لم يكن صيامًا عن الطعام فحسب، بل صيامًا عن الغفلة، عن القسوة، عن كل ما يُبعده عن الله. وكان هذا أجمل رمضان في حياته، لأنه لم يمرّ به كعادته، بل عاشه بكل تفاصيله، بذكره وعطائه، بقلبه وروحه، فأصبح رمضان نقطة تحول، لا تنتهي بانتهاء الشهر، بل تستمر ما دام القلب ينبض.