البريك والرغاء الطائفي وتأصيل الكراهية..!
الفكر التحريضي الذي يتخذ من المطلق والوثوقية الخالصة مرجعية للانطلاق في التعامل مع الآخرين، هو إفراز طبيعي لإرهاب فكري تأسس وتموضع في رحم لغة عوراء أصلت فيها الأفكار على نسقين لاثالث لهما..البراءة والتكفير..!
وبطبيعة الحال إن الخطاب الديني المنبثق من تلك الرؤية يعاني من خلل بنيوي يستلزم بالضرورة استئصال مناخات التسامح والمحبة التي من المفترض أن تكون نتاجا للفكر الديني الذي يتخذ سمة تبشيرية.
وذاك مؤشر على نكوص هذه الخطابات البدائية المؤدلجة عن مواكبة تحديات ومتطلبات المجتمعات المدنية الحديثة. فتغير الزمن يقتضي بالضرورة تغير بعض المفاهيم أو إعادة قراءتها أو محاولة عصرنتها على أقل تقدير لكي تتواءم مع متطلبات الإنسان المعاصر ومقتضيات المدنية الحديثة التي لم تعد تحفل بالأوهام وبالتخرصات وبالخطابات القروسطية التحريضية التي تقسم خلق الله لحزبين لاثالث لهما وفقا لمنظومة شمولية استعلائية يعد من تخلف عنها -أي تحضر وتعقلن- مرتدا عن الحق مصيره النار وبئس القرار..!
فمروجو البضائع اليقينية الكاسدة في سوق الحضارة الحديثة من أمثال الداعية الدكتور سعد البريك ،يأنفون بطبيعة الحال من الاعتراف بأن الحقائق قائمة على مجموعة من الاحتمالات النسبية، فالإدعاء بأن ثمة نفر يمتلكون الحقيقة المطلقة الخالية من الشوائب هي محاولة لتأصيل لغة القهر والارهاب مع الآخر المغاير الخارج عن الأطر اليقينية ،وبالتالي فلامناص من تكفيره وتسفيه رأيه لتمرده على مجتمع القطيع..!
بيد أن التعدد الثقافي سمة للمجتمع الحي الطافح بالحراك الفكري الحر، وعكس ذلك،هو حالة من الجمود والتخلف والتيه في الأقبية المعتمة المغلقة نوافذها بإحكام إزاء أي محاولة تمردية لانسكاب ضوء من ثقوب الفجوات التي بدت تتفتق شيئا فشيئا في ظل التصاعد الملحوظ للفكر التنويري الابن الشرعي للميديا الاعلامية الذي بدا مخيفا لحملة اليقينيات ..!
وسلفيو مجتمعنا الذين يقتاتون على موائد اليقينيات والقوالب الجامدة التي تتوارث جيلا بعد جيل يسوءهم ويثير حنقهم تقليص دورهم الوصائي على العقول والنوايا، ويقلقهم احجام عدد لابأس به من الشباب الرافضين (شيعة وسنة) للانصياع لعقلية القطيع ذات الوعي المشوه والعقل المستقيل..!
فالتأسيس الفعلي للحداثة الفكرية (وفقا لهؤلاء المتمردين)يبدأ من خلال لفظ الأفكار الصنمية ، وإعادة قراءة التراث، ونقد مايسمى بالمسلمات والثوابت ، لكي تأصل المعرفة القائمة على الفهم العقلاني المتماسك، لاالمعرفة التي عمادها المسلمات واليقينيات التي نتشربها من المهد إلى اللحد بتسليم مطلق وتماهيا مع عقلية القطيع .
لكن الذهنية المسكونة بهاجس المطلق لاتتوانى في شن حرب شعواء إزاء كل حراك فكري ،أو ديني ،طالما يتخذ اتجاها مغايرا لمنظومتها الشمولية ، بأساليب تحريضية رخيصة تتخذ من الدين والفتاوى القذرة سوطا يجلد به المخالفين والخارجين عن العقيدة الصحيحة وفقا للمنظومة الشمولية التي تؤسس لأتباعها منهجا إقصائيا متمسحا بالدين –وحفظ العقيدة- يخولهم وصاية رقابية متعسفة على العقول والنوايا بما أنهم ملاك الحقيقة وفي حوزتهم مفاتيح الجنان..! فالخطاب التحريضي الذي يوقد فتيله الطائفيون من الدعاة والمشايخ "المكفرجية"مازال- مع الأسف- يلقى رواجا لدى بعض الجماهير الشعبية التي تتلقف خطاب الدعاة بالهتاف والانصياع، انتصارا لجماعتهم"المؤمنين" على الآخرين"الكافرين"، والانصياع الجمعي هذا مبرر طالما هو إفراز طبيعي لحالة الإيمان الوثوقية بقدسية رجل الدين الذي يحمل على عاتقه حفظ العقيدة وصون أصولها النقية من الابتداع.
فهو القادر الأوحد على فك طلاسمها وشرح الغامض منها والتفكير نيابة عن الأتباع القاصرين . والقداسة تتطلب بالضرورة من التابع المُقدس لفضيلته إقالة العقل ووأد محاولة الفهم في مهدها مادام قداسته مخول بالتفكير نيابة عن المُقدِس الذي لايملك من أمره سوى الاتباع والتسليم ..! فلاغرو أن تُغلف أفكار المُقدس بالصنمية ،ويتحول تدريجيا الأتباع من عبادة الحق إلى عبادة الشخوص وأفكارهم الصنمية كنتيجة طبيعة لاستقالة العقل وأسبقية الإيمان على الفهم.
والواقع عرى أمامنا الذهنية المسكونة بهاجس المطلق التي لايتسع صدرها لفتح حوار جاد رصين مع الآخر المغاير على أساس نسبية الحقيقة، أو لنقل .. للبحث عن الحقيقة ، ومناقشة الإشكاليات العالقة التي تقف حائلا إزاء فهمنا للآخر المختلف .وإذا كان لايتسع لفتح حوار مع الذات والأنا، فمن باب أولى أن لايتسع لحوار جاد رصين مع الآخر المغاير إلا اللهم من باب الوصاية الدعوية ..!
.والبريك في زيارته الأخيرة للقطيف (كما كان في لقائه مع الشيخ الصفار في قناة دليل) لم يتخلَ قيد أنملة عن محاولاته الحثيثة في نشر تعاليم الدين الإسلامي الحنيف الخالص من الشوائب-وفقا لتصوراته- للمساكين الذين لايفقهون من دينهم شيئا .والدكتور الفاضل استغل كرم الضيافة على أحسن وجه من خلال بثه لخطاب طائفي تبشيري تحريضي مكرور لإخوانه في الدين و الوطن متخذا من لغة التخوين والتجييش وسيلة لتمرير أفكاره ،للجهلة والمساكين المغرر بهم ..!
وإن كان يغلف لغته بغلافي الدعوة والنصح إلا أنه يتمثل دورا أبويا وصائيا على الآخرين الضالين والمغضوب عليهم من عبدة القبور..!
فالبريك المحسوب على التيار السلفي"المعتدل" ،وكما كان متوقعا، مارس الدكتور هوايته المفضلة في العزف على الأوتار التاريخية الطائفية البالية لكي يكشف الحجب عن الحقائق الغائبة عن الأذهان المتبلدة في مشهد هزلي مثير للشفقة.
ولستُ أدري متي سيسأم البريك وأمثاله من بث هذه الخطابات التحريضية بين أبناء الوطن التي تردم مابناه المصلحون من جسور التواصل بين شرائح كانت ذات يوم متنافرة ؟!
وأكثر ما أضحكني –وشر البلية مايضحك- عبارته التهكمية التي تحمل دلالات استفزازية لاتخفى ..وأعني قوله :" أنه كان يظن القطيف بيوت من طين ولكن حين زارها أتضح أنها مدينة متكاملة جميلة ويُحسد أهل القطيف عليها من قبل كثير من المدن في المملكة العربية السعودية التي لم تلقَ عنايه كمثل ما لقيته القطيف.
"وإن كان يطمح حقا لرؤية بيوت آيلة للسقوط وبيوت أسوأ من بيوت الطين، ومظاهر البؤس والفاقة والعوز المنتشرة في أحياء القطيف الشعبية، المدينة العائمة على بحر من النفط ، فليسأل سماحة الصفار مضيّفه ، فعنده الخبر اليقين لكافة تساؤلاته..!
في ظل استمرار هذا الرغاء الطائفي المتقيح من الطائفيين المسكونين بهاجس المطلق، تتطلب مقتضيات الواقع الراهن من العقلاء من الطائفتين الكريمتين ترسيخ شعار "الدين لله والوطن للجميع" لعل هذا الشعار يأصل لحالة التعددية الثقافية في ظل العيش المشترك تحت سقف الوطنية(الذي بدا مشروخا على أيدي هؤلاء) بعد عجز رجال الدين عن ترسيخ مبدأ التعايش والاحترام المتبادل بين أبناء مختلف الطوائف تحت مظلة الدين الواحد الذي يدّعي كل جماعة أنهم أمناؤه وحماته دون الآخرين..!
والحل الحقيقي لكبح جماح مروجي الخطابات الطائفية الموبوءة التي مزقت وحدة الوطن وأفرزت جيلا مسكونا بالريبة إزاء الآخر المختلف مذهبيا ، هو إصدار أمر سياسي حازم من أعلى سلطة في الوطن بتجريم كل من يروج لمثل هذه الخطابات كائنا من كان، دون محاباة لطائفة أو قبيلة أو عشيرة أو منطقة .. انطلاقا من نص النظام الأساسي للحكم في مادته الثانية" إن الحكم بين الناس يكون على أساس العدل والمساواة.."..!