المجتمع السعودي... والانفجار من الداخل
المجتمع السعودي في وجهه الغالب في الظاهر - حتى اليوم - مجتمع محافظ رافض للتعدد ومقاوم للتنوع. وسواءً شئت أم أبيت ذلك، فلا بد لك كفرد يعيش ضمن هذا المجتمع وظروفه، من طريقة أو أخرى تتكيف بها مع هذا الواقع السائد، وما في هذا المجتمع من شروط واملاءات... تفرض نفسها فوق أرض الواقع.
ورغم ذلك، ففي الداخل السعودي في المناطق المغلقة وفي مناطق الظل... وتحت السطح، هناك أشياء أخرى... حرية بالمتابعة والدراسة والتأمل. ربما يصعب على الكثيرين منا ملاحظتها وتأملها ودراستها وتفكيكها بدقة، لكنها موجودة بالفعل... رغم ذلك العجز كله. ويبدو أنها في تمدد وتوسع مستمر. والدليل على ذلك... تلك الأعراض والمظاهر الغريبة أو المناقضة للواقع، التي تصعد للسطح بين الفينة والأخرى... لتنبئ عن طوفان أو واقعٍ جديد قادم... يمكن أن يكسر قشرة البيضة... في أية لحظة.
فأشرطة الغناء... مثلاً، وخروج المرأة من بيتها للعمل، وكشف المرأة لوجهها، والمسلسلات التركية وبقية المسلسلات المدبلجة، وتفضيل عدم إغلاق المحلات التجارية وقت الصلاة، وتفضيل قيادة المرأة للسيارة، وتركيب الدشوش الفضائية... ومشاهدة التلفاز، ولبس بنطال طيحني... وبابا سامحني... وغيرهما، وقصات الشعر الغربية الغريبة العجيبة... المنتشرة، وعباءات الموضة الصارخة... المزركشة والملونة، وكشف المرأة للشعر، وتضييق بعض النساء للعباءة... على الخصر والصدر، والمشاركة الفاعلة في المواقع الاجتماعية المختلطة على الإنترنت كالفيس بوك والتويتر... الخ... من قبل الجنسين معاً، وانتشار عادة التدخين، رغم كسر كل تلك الممارسات والسلوكيات للحواجز الدينية والاجتماعية المألوفة والمتوارثة، إلا أنها جميعاً تحظى بشعبية ملحوظة لا يمكن إغفالها أبداً في المجتمع السعودي، ليس فقط ضمن أفراد الجماعات المتحررة الليبرالية أو العلمانية... الخ... فحسب... بل أيضاً في أحيانٍ كثيرة ولو في بعض تلك القضايا أقلاً... حتى في الوسط الديني... وبين أفراده... ولو على استحياء أحياناً.
وهذه الظاهرة، بغض النظر عن صحة أو خطأ محتوياتها من عدمه، وبغض النظر عن وجهات نظرنا المختلفة والمتفاوتة حولها، إلا أنها تستوجب منا بلا شك، التوقف ملياً والتأمل والتفكير جيداً. فالتغيرات التي تحدث في المجتمع السعودي من الداخل، بسبب حركة مكنة العصر وتأثير متطلباته وتقنياته الجديدة والمتجددة على واقع المجتمعات المعاصرة... تحدث بسرعة وقوة هائلة في مجتمعنا، بحيث قد لا ندرك أو لا يدرك الكثيرون منا بعد، أبعاد أو خطورة تلك التغيرات. بينما في الوجه الآخر من المجتمع، فيبقى القشر في السطح، محافظاً على حالة جيدة من المتانة والثبات والتماسك، تفرضها موروثات بيئية وثقافية قديمة وآليات وعوامل اجتماعية ومعيشية متنوعة ومتعددة ومختلفة... منها متانة الحواجز الاجتماعية المتوارثة... وهيمنة وقوة الجهات الدينية المتمترسة في بعض الأحيان ضمن بعض الأجهزة الرسمية، مما ينبئ في النهاية عن أن مجتمعنا بات يشبه أو قد اقترب من أن يشبه... قنبلة (بشرية / ثقافية) موقوتة في طريقها إلى الانفجار.
وكمراقب هنا، ومتابع للحراك والتغيرات في الساحة السعودية، تنتابني اليوم، بسبب بعض الأعراض التي تطفو إلى السطح بين الفينة والأخرى، فأسمع عنها أو أقرأ عنها أو أشاهدها وقد أعايشها، مخاوف من أن نتحول كمجتمع متحرك ومتغير لقنبلة موقوتة شديدة الانفجار، لا تكتفي بتفجير أزمات مشاكلنا المعيشية والمذهبية والقبلية... وغيرها فقط، بل قد تلطخ يديها أيضاً بدماء صراع الاختلاف الثقافي والسلوكي الحاد الذي قد يطفو إلى السطح بيننا فجأة وبسرعة غير ملحوظة وغير متوقعة... لم نهيء أنفسنا لها بعد.
ورغم أن القفزات الاجتماعية، عادة ما تفضل أن تمر بسلام وهدوء نتيجة المتطلبات المعيشية... خصوصاً في هذا العصر... الذي يتطلب من أبناء المجتمع البشري المعاصر... مزيداً من التعايش والتفاهم والانسجام... إلا أن الحذر من شيم العقلاء... وهو أمرٌ بلا شك واجب.
إننا في الحقيقة، ونتيجة للواقع، مطالبون - اليوم خصوصاً - بمزيدٍ من مساحات الحرية وقبول المختلف ومساعدة الأفكار والتوجهات المناقضة على الكشف عن نفسها... والتعايش معها والاستماع لوجهات نظرها ودراسة توجهاتها جيداً... ومعالجتها (بالتي هي أحسن)... كي لا يتحول المجتمع في الظلام... لبؤر توتر وانفجار... وكي لا يتحول أبناء المجتمع لقنابل بشرية موقوتة.
وإن على التيارات الإسلامية - خصوصاً المتشددة منها - اليوم، أن تدرك أنها ليست هي فحسب الرقم (1) في هذا المجتمع الذي نعيشه اليوم، وأنها ليست هي فقط من ينشد أو يستطيع التغيير والهيمنة على تفكير أبناء المجتمع، وأن تدرك أيضاً أن المربي اليوم ليسا هما فقط الأبوان والمسجد فحسب... كما كان ذلك في الماضي القريب... بل هناك أيضاً... بالإضافة لذلك... الفضائيات والتلفاز والإنترنت وأجهزة الجوال والعديد من الصحف والكتب الورقية والإلكترونية المختلفة والمتنوعة... التي تمتلك سلطة وسطوة وهيمنة كبيرة على عقول وقلوب أبناء المجتمع... وهذا التغير الجذري لا محالة سيولد جيلاً خارجاً عن سيطرة السلطات الأبوية التقليدية القديمة المعهودة في المجتمع.
ولذا، فليس على الحكماء والعقلاء من السلطات الأبوية القديمة ومن ينتمي لها... في هذا العصر... أقلاً... إلا تفادي الصراعات والمواجهات الحادة القادمة المتوقعة والصدامات المرتقبة الممكنة... وإلا القبول بالتعدد والتعايش والحوار والتفاهم والتسامح... بديلاً... عن العنف والقهر والقوة... التي تم التعامل بها في الماضي... والتي قد تفجر العنف... خوفاً على الأقل على المجتمع وعلى أبناء الأمة من ويلات الانفجار العنيف والخطير القادم... في حال بقاء الشحن... لا قدر الله.