مريض عمره 94 عاماً ولكن
فن التعامل مع المرضى لا يحتاج لدورات تدريبية ولا إلى كتب ومراجع، فقط يحتاج لقلب طيب مليء بالرحمة والمحبة والخير، قلب يشعر باحتياج الآخرين له ولديه القدرة على العطاء بدون حدود.
التعامل مع المريض يحتاج إلى مهارات: فن الاستماع، الرعاية الصادقة، الابتسامة الجميلة... ربما تكون هذه البسمة تضفي نهكة لذيذة على وجبة المريض...
هذا جزء مما تعلمته خلال مسيرتي في العمل والتعامل مع المرضى في المستشفى، وفي هذه الحلقة وحلقات قادمة سأذكر لكم بعض الذكريات مع بعض المرضى، لنقتبس منها بعض الدروس والعبر.
لنبدأ الحلقة...
كنت في فترة التدريب والتي تسمى فترة الامتياز، وكان ذلك اليوم هو آخر يوم لي في هذا القسم، أخذت ملف المريض وصرت أفك الرموز الطبية، وأفك خط الأطباء الذي لا يفهمه إلا طبيب أو ممارس صحي متمرس، كنت أنظر لتلك الأوراق وكنت أبحث عن كلمة أفهمها، بعض الصفحات لا أفهم منها شيء...
وقع نظري على تقرير مختصر... كتب في بدايتة عمر المريض 94 عاماً... صرت أقرأ وأدقق النظر فوجدت كلمة قلب... قلت في نفسي هذه بداية جيدة... المريض كبير في السن وهو يعاني من أحد الأمراض القلبية... تابعت القراءة.. وجدت كلمة كولسترول... قلت هذا جيد... لقد بدأت الحالة المرضية تتضح... تابعت القراءة... ولكن صار الخط متشابك مع بعضه البعض... ولم أستطع قراءة بقية التقرير...
كان الملف مقسم إلى عدة أقسام... منها قسم للتحاليل المخبرية... ومنها للتغذية ومنها للملاحظات اليومية... فتحت قسم التحاليل فوجدت مجموعة رموز تدل على التحاليل... عرفت منها أن لديه ارتفاع في الكولسترول كما قرأت في التقرير السابق...
فتحت الجزء الخاص بالتغذية... فوجدت نوع الغذاء «تغذية عادية»..
تعجبت قلت للأختصاصي المشرف على تدريبي.. انظر ماذا كتبوا لهذا المريض الذي يعاني من ارتفاع الكولسترول... كتبوا له «تغذية عادية»...
سألني الاختصاصي: كم عمر المريض...
قلت له: 94 عاماً...
قال: دعه يأكل ما يحلو له... ربما هذه أيامه الأخيرة...
لم اقتنع بهذا الكلام...
في نهاية اليوم قررت أن أعود لرؤية هذا المريض...
دخلت الغرفة وكنت قد رسمت في ذهني صورة لمريض مستلق على السرير لا يكاد يفتح عينه... لا يكاد يتحدث... ربما عليه مجموعة من الأجهزة الطبية... ربما يكون المريض منكمش على بعضه...
دخلت الغرفة بهدوء خوفاً أن أوقظ المريض إن كان نائماً...
وكانت المفاجأة التي لا تزال عالقة في ذهني.. رأيت المريض البالغ من العمر 94 عاماً جالساً على السرير وبيده كتاباً يقرأ فيه...
وقفت مدهوشاً للحظات... أيعقل هذا... هذا المريض ذو 94 عاماً بهذه الحالة... يقرأ...
سلمت عليه...
رد سلامي...
قلت له: أنا متدرب في قسم التغذية... هل الوجبة مناسبة لك؟
ابتسم وقال: نعم هي مناسبة شكراً لك...
أعجبني رده... قلت ما شاء الله أنت تقرأ؟!
ابتسم وقال: نعم أقرأ وماذا في الأمر...
ثم أكمل حديثه: القراءة هوايتي منذ أن كنت شابا... حتى هذا اليوم وحتى نفترق عن بعضنا...
قلت: أطال الله في عمرك...
بدأت أتحدث معه...
كان يتحدث بلغة ثقافية جميلة... كلام في الأدب... كلام في التاريخ... كلام في التراث...
كنت أستمع لحديثه اللذيذ...
كان يقول: يقول لك المُرشدون: إقرأ ما ينفعك ولكني أقول: بل اِنتفع بما تقرأ. هذه عبارة الكاتب عباس العقاد
أمضيت وقتاً جميلاً وهو يتحدث عن تجربته في القراءة والثقافة...
أخيراً قلت له: للأسف هذا آخر يوم لي في هذا القسم ولكني أعدك أن أزورك إن سنحت لي الفرصة في الأيام القادمة...
ابتسم وقال: شكراً لك لقد اسعدتني... منذ فترة طويلة لم أتحدث بهذه الصورة عن هوايتي... اليوم هو آخر يوم لي بالمستشفى... سأغادر إلى البيت... أتمنى لك حياة طيبة...
سلمت عليه وقلت: أتمنى لك الصحة والعافية... سعدت بلقاءك...
خرجت من غرفته وأنا أحمل صورة أخرى...
كنت أعتقد أنني سأرى رجلا عجوزا مصابا بالزهايمر.. وإذا بي أجلس مع موسوعة ثقافية...
هذا المريض ألهمني أن ”القِراءةُ عِشقٌ، عِشقٌ للكُتب، عِشقٌ لا يتركك تعيشُ إلا والكتاب قرينك، في الحِلِّ والترحال، معك وأنتَ تأكل، وأنت تمشي، وأنت تشرب، وشريكك في الفِراش، الكتاب الجميل يُذهلك عن نفسك.“