حديث الصراع بين الجهات الدينية (2)
مقالي في الأسبوع الماضي كان عن خيار التستر على أسباب الصراع بين الجهات الدينية، وإقناع الناس أنها منطلقة من الواجب الشرعي وكفى.
ومقالي اليوم عن خيار آخر، وهو خيار الجهر والإعلان عن حقيقة تلك الصراعات ومسبباتها والعوامل التي تؤججها.
ولهذا الخيار مبرراته التي لا تقل أهمية عن مبررات الخيار الأول وهي:
(1) إن حساسية الموضوع نابعة من التعامل معه بخجل وخفاء، ولو كان الصراع خاصاً بالمتدينين لتعقلنا الحساسية وقدرناها، لكن الصراع مرض عام وشامل لم يسلم منه شخص، ولا انفلتت من حبائله جماعة إلا ما رحم ربك، فالحديث عنه حديث عن حالة عامة، وحساسيته من زاوية المتدينين نابعة من نظرة القداسة التي فصلناهم بها عن إنسانيتهم وبشريتهم.
(2) لابد من ثقافة صريحة تكشف خداع التستر بالدين في المنازعات والخلافات الداخلية، مما يجعل الكثير من الصراعات الداخلية معنونة بالقيم والمبادئ وهي ليست كذلك في كنهها وحقيقتها، وفي الكشف عنها إراحة للدين من أخطائنا وأوزارنا وأهوائنا وبشريتنا التي تخاصم الدين أحيانا، ولكنها تتمترس به للدفاع عن أمور أخرى بعيدة كل البعد عن الدين.
(3) الإعلان عن الأسباب الحقيقية للصراعات الدينية هو الوسيلة الوحيدة للمعالجة، أو على أقل الاحتمالات لتحجيم الأضرار.
نحن بحاجة لانطلاق واع وجريء لوضع العلاج ونحن غير مكبلين بحساسيات القداسة، وتنزيل البشر بمنزلة المعصوم.
تحديات هذا الخيار:
يواجه هذا الخيار عدة تحديات
(1) عدم رضا قطاع كبير من المجتمع عن هذا الطرح لأنه خلاف ما تحبذ نفوسهم سماعه.
(2) عدم الرضا ذاك قد يعكس حجم المشقة في السباحة عكس التيار الذي عليه الغالبية، مما يفتح الباب واسعاً أمام التحليلات غير السوية - في بعض الأحيان - عن دوافع هذه الكتابات.
(3) انزعاج بعض الأطراف التي قد تكون مشتغلة ببعض الصراعات والنزاعات، مما يثير لديها بعض الحساسية، ويجعلها تتبنى مواقف مخالفة لهذا الخيار.
- بين الخيارين -
بالطبع كان بالإمكان الخروج من هذين الخيارين (خيار الصمت في مقالي السابق وخيار الإعلان هذا) إلى خيار ثالث، وهو محل توافق وتراضٍ؛ لأنه لا يمس بالذات الدينية، فهو إلقاء بالذنب إلى البعيد وإلى خارج السور وخارج الدائرة المحظورة، فيقال مثلاً إن هذه الصراعات هي بين عامة الناس أو بسطائهم، أو حتى من لا يعون من الدين حقيقته وكنهه، إنها بين أبناء الشارع، وإنها مضخمة إلى أكبر من حجمها مئات المرات، أو إنها اختلافات جزئية وبسيطة، لا تحتاج إلى تشهير وإبراز بهذه الطريقة، كي لا ننشر غسيلنا أمام الملأ، فالستر خير وفضيلة.
سيئات هذا الخيار:
(1) إنه تسطيح للمشكلة دون الوصول إلى جذورها وأسبابها.
(2) فيه استغفال لأنفسنا وللمجتمع من حولنا، واستخفاف بعقولنا وعقولهم.
(3) إن هذا نوعاً من الاستخفاف بالخطأ والذنب، وهو محاولة لقبوله النفسي والاجتماعي بل تشريع عرفي له، وفي ذلك دمار المجتمع ونهاية له، وقد ورد في الحديث (إن من أشد الذنوب ذنب استهان به صاحبه).
المحصلة النهائية أختصرها في أمرين:
الأول: إننا لا نستطيع أن نفسر الصراعات الاجتماعية، ضمن الدين الواحد والمذهب الواحد، وخصوصا للملتصقين به بأنها محض صدفة طارئة، أو حالة غضب وهيجان في المشاعر، تدفع أصحابها إلى أتون معركة لا ترحم، وإلى فتنة لا تبقي ولا تذر من قيم المجتمع وأعرافه ومكانته إلا الدمار والتشرذم.
إن طول أمد الصراع وامتداد فتراته من جهة، وشخصياته من جهة أخرى، والعناوين التي يتداولها أسلحة بيده في معاركة الخاسرة، لا يسمح لنا بالتستر وحفظ ماء الوجه، ولا باستغفال أنفسنا ومجتمعنا إلى هذا الحد من وهن التصور وقلة التفكر والتخفي وراء الأسباب الحقيقية.
إننا نرى بأم أعيننا وكما يقول محمد جابر الأنصاري في كتابه (العرب والسياسة أين الخلل؟): إن البيئة العربية والإسلامية قد شهدت وتشهد، في الوقت ذاته، بعض أسوأ نماذج اللاتسامح والتعصب المقرون بالعنف الدموي قديماً وحديثاً وإلى يومنا هذا، ليس بين أبناء الأديان والمذاهب والقوميات والأجناس المتعارضة فحسب ولكن داخل الدين والمذهب الواحد ذاته، وداخل القبيلة والعشيرة الواحدة ذاتها، وبين فصائل الحزب الحديث الواحد والحركة السياسية المعاصرة الواحدة، في صراعات وحروب لا يحول الدين ذاته عن وقوعها، كما في الحرب الأهلية الأفغانية]. فكان لابد بنا من التأمل والتساؤل والمصارحة في الكشف عن أسباب هذا التفكك والصراع الذي يطحن قدراتنا وأجيالنا.
الثاني: إن خير المجتمع وخلقه وورعه هو في اكتشاف الخطأ والعار، ومطاردته والقدرة على التخلص منه، ذلك أجدى من أن نتستر على المنكر، ونركن للعواطف فيؤتى على بنياننا من الأساس، ونخرب بيوتنا بأيدينا لا سمح الله.
إن المجتمع الذي يشير لأخطائه بشجاعة ويندفع لمعالجتها بعزم، ويتجاوز هفواته بوعي وثبات، هو المجتمع الأجدر أن يحيا وأن يبقى وأن يستعمر الأرض ويخلف الرحمن.