الكتب والعزلة
يرى بعض محبي الكتب أن الكِتاب أفضل صديق، بل حتى أفضل من الأصدقاء الحقيقيين؛ لكونها لا تمل ولا تغضب ولا تتضايق من رفاقها، ويرى آخرون أن البعد عنها مشكلة بحد ذاتها، ودافع للوقوع في فخ الكآبة والحزن؛ وهو عين ما قاله الكاتب دانيال بناك: ”إنه لحزن عميق، وعزلة داخل العزلة، أن يكون المرء منفياً عن عالم الكتب“. وأضاف أن ”المفارقة التي تتميز بها القراءة تكمن في مقدرتها على إبعادنا عن العالم، حتى نتمكن من فهم معنى ما يدور من حولنا“.
أما مصطفى لطفي المنفلوطي فقد قال في مقدمة كتاب «النظرات»: ”فلم تكن ساعة من الساعات أحب إلي ولا آثر عندي من ساعة أخلو فيها بنفسي، وأمسك عليّ بابي، ثم أسلم نفسي إلى كتابي، فيخيل إلي كأني قد انتقلت من هذا العالم الذي أنا فيه إلى عالم آخر من عوالم التاريخ الغابر“. لكن مؤرخ القراءة ألبرتو مانغويل عبّر عن ذلك بقوله: ”أعطتني القراءة عذرًا مقبولًا لعزلتي، بل ربما أعطت مغزى لتلك العزلة المفروضة علي“.
وهكذا نصل إلى خلاصة أن العزلة وعالم الكتب صنوان لا يفترقان؛ فالكتب وقراءتها تجبر محبيها على درجة ما من العزلة الإيجابية من أجل التوحد معها، ومن جهة أخرى فإن محبيها لا يطيقون العزلة أو الابتعاد عنها، بل قد يعدونها أشد أنواع العقاب لهم.
إن الاختلاء بالكتب والإبحار في عالمها لا يمكن عده عزلة إذ هو اختلاط من نوع آخر مع كتّاب وشخصيات وفلاسفة ومفكرون من مختلف الحقب التاريخية في بقع جغرافية متنوعة حتى إن لم يتجاوز القارئ عتبه باب منزله.
ليست دعوة لاعتزال الناس والعيش في أبراج عاجية بل هي دعوة لوضع حدود واضحة بين أوقات الاختلاط بالناس وأوقات العيش مع عالم الكتب والكُتّاب والقراءة حتى لا يطغى جانب على آخر حتى تظل القراءة كحائط الصد الذي يعزل عن كل جهل وظلام بعيدًا عن جموع الغوغاء المنتشرة في أغلب المجتمعات.
*قول لمجهول: إن هناك علاقة غريبة بين حب الكتب والعزلة، فأنا لا أعتقد أن هناك أحدًا يحب قراءة الكتب، ولم يفكر في العزلة يومًا ما.