مكونات الهوية الشيعية
يعرّف باحثون العصر الحديث بأنه عصر انبعاث الهويات، بل تفجرها في صور لا يخلو بعضها من العنف.
لقد قامت دول جديدة معتمدة على هذا الانبعاث، كما انتهت دول كانت جامعة لشعوب مختلفة، وما ذلك إلا لأن عناصر تلك الشعوب تبحث عن هويتها الخاصة بعد أن قمعت في ظل تلك الدول الجامعة (أو القامعة للهوية الخاصة).
والشيعة جزء من هذا العالم يريدون التعبيرعن هويتهم الخاصة، وتعريف العالم بها، بدلا من أن يقوم الآخرون بتعريفهم..فإن تقديم هوية مخالفة من قبل الشخص يعتبر تزويرا، فكيف يكون الأمر حين تقدم هوية كاذبة عن مجتمع يقدر بمئات الملايين؟
الصورة الكاذبة التي عُرّف الشيعة بها للآخرين هي هوية مزورة (شملت العقائد والأخلاق والتكوين الجسدي فهم (!) في ليلة الطفية كما زعم مخالفوهم يختلطون رجالا ونساء ويزني بعضهم ببعض! وهم ليسوا كخلقة باقي الناس بل كل شيعي يحمل ذيلا في مؤخرته! كالحيوانات وهم سيئو الأخلاق فلا ينبغي أن تؤاكلهم لأنهم يبصقون في الطعام والشراب الذي يقدمونه إلى غيرهم!! وهكذا ينتج الخيال المريض المعادي ما شاء من الصفات الكاذبة..
غير أنه كان لهذه الهوية المزورة بعض النتائج المعاكسة لإرادة ناشريها، حيث دفعت الكثير من الناس إلى التفتيش عن الشيعة والتشيع، ولقد قال أحد المتابعين لحركة التحول المذهبي في مقابلة معه بأن أحد الأسباب الرئيسة للتحول المذهبي هو الكذب على الشيعة. وكأن الشاعر جعل هذا المثال أمامه تماما عندما أنشأ قوله:
أتيت سروري إذ أردت مساءتي وقد يحسن الإنسان من حيث لا يدري
إنه إذا كان يمكن أن تغطى الحقائق في وقت سابق، فإن التطور التقني الذي حول العالم إلى قرية واحدة يتجول الإنسان في أزقتها بفضل الانترنت، ساعة يشاء وبالنحو الذي يريد.. جعل من تغطية الحقائق وسيلة غير نافعة أبدا.
المقصود من مكونات الهوية هنا هو: العلامات التي تترافق مع وجود الكيان المحدد، سواء منها العقدية أو الاجتماعية.. ولهذا فإنه لا تدخل فيها بالضرورة الأمور التفصيلية، كبعض المسائل الفقهية أو العقدية (كالمتعة، والرجعة). وبمعنى آخر هي تلك الإشارات التي يتعرف من خلال وجودها في مجتمع على وجود أصحاب هذا المنهج.
فمن تلك المكونات:
1- الإيمان بالإمامة المنصوصة المعصومة: يتميز شيعة أهل البيت الإماميون باعتقادهم باثني عشر إماما معصوما (أولهم علي بن أبي طالب، وآخرهم محمد بن الحسن العسكري)، قد تم النص عليهم وتعيينهم من قبل النبي وهو في ذلك مبلغ عن ربه، وقد أقام علماء الشيعة الأدلة الكافية من العقل والنقل على هذا الأمر وألفوا فيه الكتب.
وحيث أن الإمام في منصبه مبلغ عن الله عز وجل، وقد أمر الناس بطاعته بشكل مطلق في قوله تعالى ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ﴾ (سورة النساء: من الآية 59)، فلا بد أن يكون معصوما، وإلا كان الأمر بطاعته بشكل مطلق مع عدم عصمته واحتمال خطئه أو انحرافه إغراء للناس بالجهل وإيقاعا لهم في المفسدة. وهي مقتضى آية التطهير، وحديث: "لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْض".
إن الإيمان بفكرة الإمامة المعصومة والمنصوبة هو أهم مميزات ومكونات الهوية الشيعية فهي الفارق الأساس بين مدرسة الخلافة ومدرسة الإمامة، كما أنها تميز الشيعة الإمامية عن بقية الفرق الشيعية كالزيدية والاسماعيلية والواقفة.
2- الإيمان بالإمام المهدي محمد بن الحسن العسكري عجل الله تعالى فرجه: باعتباره الإمام الثاني عشر الموجود بالفعل، المولود في سنة 255 هـ، وهو التاسع من ولد الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب كما هو في النص الوارد، وهو المخلص والمنقذ للعالم، والمنتظر من قبل جموع المؤمنين لكي يملأ الله به الأرض عدلا كما ملئت ظلما وجورا.
إن الاعتقاد بالمهدي عقيدة إسلامية عامة، ولكن الإيمان به بهذه التفاصيل يعد خاصية شيعية. وعلى هذا الأساس فلا معنى لأن يقول شخص إنه شيعي لكن لا يؤمن بالإمام المهدي محمد بن الحسن العسكري بالتفاصيل المذكورة آنفا فإن هذا مثل أن يقول شخص أنا مسلم ولكن لا أومن بمحمد بن عبد الله رسولا ونبيا..
والإيمان بالإمام المهدي عجل الله فرجه، نوع اعتراض على الواقع السيء، وهو مصدر للأمل في الخير والتغيير، وإيمان باستمرار التخطيط الالهي للبشر وأنهم لم يتركهم هملا.
3- محورية القضية الحسينية:
يتميز الشيعة في كل مناطقهم بجعل القضية الحسينية محورا جامعا وعنصرا معبرا عن وجودهم، بل هي أفضل إعلان عن الهوية المشتركة والجامعة بينهم ولذا يقال: إن عاشوراء هو يوم إشهار الشيعة لهويتهم الخاصة مع أنها قد تثير استغراب الآخرين، لكن الهوية الخاصة هي هكذا.. تجمع أصحاب الهوية وتميزهم عن غيرهم..
فشهادة الإمام الحسين عليه السلام في العاشر من محرم سنة 61هـ بالنسبة لشيعة أهل البيت ليس حدثا تاريخيا انتهى بنهاية يومه، وإنما هو قضية متجددة ومستمرة في كل سنة.
4- الارتباط بالمرجعية الدينية:
أصل الرجوع إلى الخبير والعالم مما تطابقت عليه العقول، وأكدته النصوص الشرعية، ﴿ فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ﴾ (سورة النحل: من الآية 43).
وهذا المعنى كان موجودا لا شك حتى في زمان الأئمة الاثني عشر، فقد كان يحيلون من لا يصلون إليهم إلى فقهاء رواتهم كما تفيده الروايات الكثيرة.
نعم تطورت المرجعية الشيعية من صورتها البسيطة الأولى، إلى صورة أكثر تقدما وأصبحت في مستوى قيادة الطائفة سياسيا واجتماعيا، ولم يعد الأمر مجرد رجوع في القضايا الفقهية التفصيلية وحققت انجازات مهمة في تاريخها القديم والحديث.
ولا نعرف في مجتمع من مجتمعات المسلمين، ارتباطا قويا بهذا النحو الذي يرتبط فيه الشيعة بمرجعياتهم الدينية.