المجتمع بين الفرقة والتكامل
من الطبيعي أن تعيش المجتمعات الإنسانية وهي تملك العديد من جهات القوة والمواهب الخلاقة، والأحلام العظيمة. وإن تكامل هذه الجهات يجعل المجتمع أكثر قوة، يعضد بعضه بعضا.
ومن جهة أخرى فإن تنافر مراكز القوة وتنافسها بشكل سلبي، لأجل مكاسب ضيقة وشخصية، يجعل من هذا المجتمع مجتمعا ضعيفا وممزقا ومتهالك، يضرب بعضهم بعضا، ويشتم بعضهم بعضا. وتصبح الأجواء في مثل تلك المجتمعات مشحونة بأجواء غير صحية، مما يؤثر سلبا على الروح الاجتماعية، ويهلك فرص التكامل والإصلاح.
وفي مثل هذه المجتمعات التي تعيش الأجواء السلبية، يتم طمس المواهب الخلاقة، وسحق الكفاءات الشبابية الواعدة. فضلا عن صراعات وهمية تشغل العقل عن الفضل، وتستنزف الطاقات على غير هدى.
وللأسف فإن البعض يظن أن نجاح أي جهة أو طرف خارج مظلة نفوذه ووصايته، يظن أن هذا النجاح هو خسارة له. ويرى في هذه النجاحات تهديدا مباشرا لمكانته الاجتماعية، أو إبعادا للجمهور عنه وعن مبادرته الاجتماعية.
بينما المجتمعات التي تشعر بالغبطة تجاه بعضها البعض، وتظن بنفسها الخير، بل ويدعم كل طرف الطرف الآخر، وينصح له، فإن هذه المجتمعات تملك الأرضية الخصبة لانتهاز فرص الفوز والنجاح، ويجد الشباب فرصتهم الكاملة لإظهار مواهبهم وإبداعاتهم، فيزداد المجتمع تكاملا وترابطا وألفة.
من الخطأ الكبير إلغاء بعض مراكز القوة على حساب الأخرى. فمثلا إلغاء بعض المجالس أو إلغاء أصحاب الكفاءات الأكاديمية، أو الوجهاء وأصحاب الحكمة الاجتماعية، أو إلغاء طلبة العلوم. فإننا نجد أن القرآن الكريم يدعوا إلى التكامل والتعاضد، والتنافس الإيجابي، «وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ».
وكذلك، فإن القرآن الكريم ينهى عن الفرقة والتمزق، وأنها سببا لهلاك المجتمعات «وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ وَاصْبِرُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ»
من الطبيعي أن يكون هناك اختلاف في منهجية التفكير عند البشر، ما ينتج عنه تيارات فكرية ومجالس مختلفة. ولقد عاشت بعض المجتمعات صراعات مختلفة بين طلبة العلوم بحجة فساد هذه المنهجية أو تلك.
أو أن طلبة العلوم ينظرون بعين الريبة الى المثقفين والأكاديميين ويظنون أنهم تهديد لمكانتهم ونفوذهم الاجتماعي. ومن جهة أخرى، لعل بعض الأكاديميين يرى أن طلبة العلوم يعيشون في حقبة زمنية بعيدة عن الواقع، وأن الخلافات بين المناهج الفكرية للحوزات العلمية تنسحب على تفريق المجتمع وتمزيقه، وبالتالي يضرون المجتمع بخلافات غير واقعية ويمزقونه ويفرقونه.
وفي الحقيقة فإن المجتمع لا يستغني عن الطبيب والمهندس والطيار والمفكر والمخترع وطالب العلم. فلكل دور يستطيع القيام به حسب مراكز القوة لديه. وإن اختلاف أسلوب التفكير، يصدر عنه تكامل وتطور فكري، تصب في المصلحة الاجتماعية.
في الحقيقة، إن الخلافات بين المجالس والجهات النشطة اجتماعيا، أو الخلافات بين مدارس طلبة العلوم، أو بين طلبة العلوم والمثقفين، هو ليس بسبب اختلاف التفكير والبنية الثقافية، بل هو بسبب سوء السريرة.
فكلما حسنت وطهرت النوايا، زالت الخلافات، وحل محلها التكامل والتعاضد والعطاء المتبادل. فعندما تكون الأخلاق جميلة، يعمل كل طرف على مساعدة الطرف الآخر، ولا ينظر كل طرف أو منهجية إلى الآخر بسوء. بل إن الاختلافات تخلق جو من التنافس الإيجابي الحيوي، والمسارعة في فعل الخير.
وحقيقة الأمر، أن المجتمعات الإنسانية وعلى مر الزمن، لا تنفك عن الحاجة إلى التربية والتهذيب الأخلاقي والروحي. فالأخلاق وإصلاح الباطن هو الذي يضمن السلامة الاجتماعية، ويلغي الخلافات، ويصلح ذات البين، ويجعل من المجتمع بيئة صالحة تنمو فيه الأشجار الوارفة، ويجد فيها الجميع متسعا لإظهار مواهبه وتكاملها. «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ».
وأجمل مثال على تعزيز الألفة والوحدة الاجتماعية عند وجود الاختلاف الطبيعي هو عندما آخاء الرسول الأعظم بين المهاجرين والأنصار، وجعل منهم مجتمعا قويا استطاع أن ينتصر على أعداءه ككفار قريش واليهود في الكثير من الحروب. ويؤسس حضارة عظيمة بلغت الشرق والغرب. «ۚ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ»
لا يمكن أن نتصور أن المجتمع الإسلامي في تلك الحقبة يستطيع أن ينتصر في حروبه كبدر وأحد والخندق وخيبر لو كان يعيش الفرقة والنزاع الداخلي. ولو كان كذلك لانمحت الدولة الإسلامية في مهدها. ولكانت مجرد أحاديث.
وفق الله الجميع لما هو أصلح