لا تبالغ!
المبالغة كلمةٌ تدل على ما فاق حَدَّهُ وجاوزه أو «ما فاق الواقع وجاوزه ولم يكن مطابقاً له زيادةً عند نقلهِ وصفاً» وهو المعنى الذي نعنيه هنا، ولا يبدو أنا قادرين على القول بأنه ما زاد عن الواقع، إذ إن الواقع لا يصف نفسه بل يحتاج إلى مُقيم وسيط يصفه لينقل ما رأى أو سمِع.
للمبالغةِ وقعٌ ذهنيٌ لا يدُلُّ على الكذب المطلق بل قد يَصدُق عليه القول بأنه مبالغةٌ بالصدق!
يبدو الأمر مربكاً إذا ما قارنَّا رواية الراوي بتسجيلٍ حيِ للحدث، أو بنقل روايةٍ لشاهدٍ آخرٍ لا صِلَةَ لَهُ بالحدث غير أنه كان شاهداً عليه، لكن عندما نفهم أن المُبالِغ ينقل ويصف ما رآهُ هو بأحاسيسه وانفعالاته التي تمتزج بالكلمات وتتخلل فواصل الجمل لتتحول إلى صورةٍ تفصيلية دقيقةٍ تضخم كل محفزٍ للمشاعر عشرات المرات وتقلص كل ما هو دون ذلك وهو نقل أمين لما طبع في ذاكرته التي ليست مجرد نسخةٍ عمياء لانعكاس ضوءٍ على سطحٍ حساسٍ لكاميرة صماء لا تشعر بما حولها.
إذا وضعنا ذلك بالحسبان ستبدو الصورة المبالغ فيها أكثر واقعيةً وصدقاً من ذلك التفاعل الأعمى الذي لا يصدق إلا في تباين الأثر المنعكس للضوء على مختلف أنواع الذرات للمواد المختلفة الذي يبدو تشويهاً لا عن عمد بل عن قصور للحقيقة.
قلت أنها قد تكون مبالغةً بالصدق، لأنها قد لا تكون كذلك عندما تُقصد بوعيٍ بغية نقل غير ما رأيته بمعنى نقل الحدث مع مشاعر كاذبه لتكون النتيجة كاذبه ونحن هنا بمعرض بحث المبالغة لا الكذب.
ليس من المبالغة طرح موضوع المبالغة كما أنه ليس من قبيل الترف، فله من الأهمية ما يجعلنا نجتهد لتحصيل أثرها ودلالاته وما يحصل من شياع الحمولة السلبية المتعلقة بها، وأبسط ما نلاحظه بهذا الخصوص هو ما نراه على معظم مذيعي الأخبار أثناء نقل الأحداث المأساوية والكوارث بأسلوب يغلب عليه الجمود والجفاف طلباً للموضوعية وبعداً عن المبالغة التي لا تطابق الصور واللقطات الحية التي يعتبرونها الأصل المحايد بحيث لا يتنبه المستمع بين أسلوب سرد أخبار الحروب والأخرى المتعلقة بحالة الطقس اليومي.
ومثال آخر على استغلال أثر ما يسمى الواقع عن طريق سرد أرقام الضحايا والتي قد تكون صادقةً عددا للطرف الذي لا يُرغب بالتعاطف معه، بينما يؤتى بذوي الضحية الأخرى التي قد لا يوجد غيرها لنقل الخبر المُفجع من عين وفم المفجوع ليكون الأثر أوقع على النفس وأدعى للتعاطف وهذا ما تحترفه القنوات التي ليست الأجنبية بدعاً منها.
ومثال أخير هو ما يُرمى به الأدب والفنون بكونهما مبالغة لا طائلة منها مُخالِفةٌ للواقع البسيط الذي لا يحتاج لكل هذا الغلو، وأسهل ما نشير إليه هنا هو أَنَّا لو أخذنا بهذه النظرة الجافة المميتة لكل ما هو حي لما وجدنا روائع ما سطره الشعراء من غزل ومدح بل وحتى ذم إذ إنه قطعاً لم يسطر إلا عبر أحاسيس امتزجت باللغة فأنتجت السحر الذي يحيي ميت القلب ويرطب جفاف الروح
وهنا لا يصح قول «أجمل الشعرِ أكذبه» إلا بالقول أن الكذب هو عدم المطابقة للواقع الصرف أو ما نسميه بالمجاز.
وهذا ما ينطبق على جميع أنواع الفن بما فيها الرواية التي أحد أعمدتها الوصف الدقيق لمشاعر الشخصيات في سياقاتها بحيث تصل للمتلقي بكل حمولتها راسِمةً صورةً دقيقةً يصعب اختزالها لتعقيدات الحالة الإنسانية.
وكذلك الرسام الذي لا يكون ولم يكن غرضه مطابقةً الواقع الصرف الخالي نقله من أي نكهة شعوريه بل رسم ما يراه من خلال عيونه والمعاني التي قد لا يراها غيره ويريد إيصالها في رسمه.
لا يرى الإنسان الحياة كما هي حتى وإن أراد،
فحواسنا محدودة، فلا معنى من إبقائها في أدنى مستوياتها بعيدةً عن الفن بحجة الواقع الذي هو محدود بطبيعته، مرةً لقصور الواقع عن الشعور الإنساني ومرةً أخرى لقصور الحواس.