هل يعتزل المثقف؟
لقد ارتبطت فكرة الاعتزال بنجوم الرياضة والفن وذلك نتيجة تقدمهم في العمر أو الاكتفاء بما قدموا من إبداعات وعطاءات، ولكن ذلك لا يحضر عادة في العوالم والفضاءات الأخرى كالأدب والثقافة والكتابة والرواية والشعر والرسم، رغم تشارك الملامح والتفاصيل، بل وتشابك الأسباب والروافد التي تتقاسم وتتقاطع مع عالم الرياضة والفن كالعمر وفقدان الرغبة والشعور بالملل وأفول الوهج وغياب الرمزية ونضوب الموهبة وتراجع الإنتاج وتكرار المحتوى وتأرجح الحرية والخوف من الفشل والمحافظة على الاسم وتغير الأفكار وتجديد الموضوعات وتبدّل المرحلة.
إن فكرة اعتزال المثقف مهما كان لونه أو حجمه، بحد ذاتها، فكرة لا وجود لها في بنية المزاج العربي الذي يضع المثقف في الدرجات العليا من سلم الوعي والإبداع، وهي قيمة مطلقة يمتلكها المثقف لا تخضع عادة لمقاييس العمر أو العطاء، بل على العكس تماماً، فزيادة العمر ”خبرة“ وثبات العطاء ”تجربة“، وكيف للمثقف الذي يحمل الخبرة والتجربة أن يعتزل!. إن فكرة اعتزال المثقف، كانت ومازالت - ولكنها لن تبقى - مستبعدة، وإن حدثت فهي مجرد تجارب محدودة جداً ولا ترقى لأن تُشكّل ظاهرة ثقافية أو نهاية طبيعية.
حتى وقت قريب، لم يكن يجرؤ المثقف على إعلان اعتزاله عن الحقل أو الفضاء الثقافي الذي ينتمي إليه، لأن تهمة الفشل ستكون خاتمة لمسيرته الطويلة، لذا يُفضّل الانزواء عن الأضواء أو الانسحاب من المشهد بهدوء ودون ضجيج، الأمر الذي سيجنبه الكثير من الانتقادات والاتهامات.
الآن، بل منذ بزوغ الألفية الثالثة قبل عقدين من الزمن، تغيرت الكثير من الموازين والقواعد وتحطمت الكثير من القناعات والتابوهات، وهناك ثمة ضفة هادئة تستعد لاستقبال قوافل المعتزلين والمتوقفين عن كتابة المقالات والأبيات والروايات، قريباً جداً، سنشاهد حفلات الاعتزال للمثقفين والأدباء، تماماً كما يحدث للرياضيين والفنانين، قريباً جداً، ستُقام حفلة اعتزال لكاتب ينشر مقاله الأخير، ولشاعر يقرأ قصيدته الأخيرة، ولروائي يكتب روايته الأخيرة.