مجالس افتراضية.. بين الهدفية والتهريج
تميزت المجتمعات العربية بشكل عام والمجتمعات الخليجية بشكل خاص بقوة تآلفها الاجتماعي والديني، إذ لا يغدو حي من أحياء هذه المجتمعات إلا وتجد فيها مكانًا يجتمع فيه أبناء الحي، وفي هذا التجمع تتكشف أحوال بعضهم بعضًا وطبيعة شخصية كل فرد منهم مما يزيدهم أكثر قرب وألفة.
وطبيعة هذه التجمعات واللقاءات شبه اليومية تخلق حالة من الود والمحبة والقرب النفسي وتزيد من الترابط الاجتماعي، وهي عادة حسنة توارثها الأبناء من الآباء والأجداد من جيل إلى جيل حتى يومنا هذا، وأصبحت ضرورة اجتماعية لا غنى عنها بل تتنقل معهم هذه العادة الاجتماعية حتى في أسفارهم ومصايفهم.
وتميزت هذه المجالس الاجتماعية بالكثير من المكاسب المعرفية والثقافية عبر تنوع الحضور فيها ومن مختلف المستويات الاجتماعية والفكرية، وما يدور في أروقة هذه الديوانيات من التنوع الفكري والثقافي يصب في قنوات وأنشطة المجتمع مثل المؤسسات الخيرية والرياضية وغيرها، وتمكنت هذه المجالس من لعب أدوار اجتماعية وتطوعية عديدة ومهمة ساعدت في تسهيل تنفيذ خطط ومشاريع هذه الكيانات والمؤسسات الاجتماعية، والأمثلة على ذلك كثيرة ولستُ في صدد حصرها.
عند اقتحام ثقافة التكنولوجيا في الأوساط العلمية والاجتماعية وما فرضته من ثقافة ربما كانت مغايرة تمامًا عن الواقع المعتاد عليه بوصفه نمطًا اجتماعيًّا مستجدًا، إذ قامت بحركة ثقافية فكرية انقلابية واستطاعت ثقافة التكنولوجيا تبديل كثير من العادات الاجتماعية والسلوكية وفي طليعتها تطبيقات التواصل الاجتماعي بشتى أنواعها، وتمكنت من نقل العلاقة الاجتماعية الواقعية المباشرة إلى العلاقة الاجتماعية الافتراضية الإلكترونية التي ساهمت بدورها في فقد كثير من أبناء المجتمع أهمية لمفهوم الاحتكاك الاجتماعي الذي يتولد منه الدفء والشعور في العلاقات الإنسانية، حتى لو كان هذا الشعور في احتساء «استكانة» شاي مخدرة من ذلك الإبريق الذي توارثته تلك المجالس أو ما تسمى في بعض المناطق بالديوانيات التي تحمل غالبًا أسماء أصحابها المؤسسين.
من إفرازات هذه التكنولوجيا الرقمية العصرية أنها أحدثت لغة تواصل اجتماعي افتراضي جديد عبر ”منصاتها الإلكترونية“، التي جُهزت بإمكانيات اجتماعية من واقع الحياة الاجتماعية الواقعية، ولم تغفل عن فهم طبيعية الإنسان على أنه مخلوق اجتماعي لا ينفك عن المجتمع ولا المجتمع ينفك عنه، وعلى هذا الأساس بنيت فكرة هذه التطبيقات الاجتماعية الحديثة التكنولوجيا، ولكن بطريقة مغايرة عن الواقعية، لأنها علاقة عن بُعد ليست ملموسة ماديًّا ولكنها تحمل مشاعر محسوسة.
ومن أبرز هذه المنصات الاجتماعية الافتراضية وأكثرها شهرة وأسهلها استخدامًا ولاقت قبولًا عالميًّا هو ”الواتساب“، وقد مكن فكرة هذا التطبيق بوسائل حديثة اجتماعيًّا ومن أهمها ما يطلق عليه بإنشاء المجموعات أو القروبات، وهي قريبة جدًّا لفكرة الديوانيات الواقعية، وهي مؤلفة من أفراد يلتقون في غرفة إلكترونية تنفرد بهم وكأنهم تمامًا في محيطهم الواقعي، والفارق أن هذه المجالس وما فيها تنتقل معك أينما تكون صوتًا وصورة ومن دون وقت محدد.
نجح هذا التطبيق اجتماعيًّا وأصبح المجتمع يتفاعل معه بشكل لم يتوقعه أحد حتى بلغ عند بعضهم درجة الإدمان على استخدامه، ولكن السؤال المهم: كيف استثمرت هذه الثقافة الافتراضية؟ وماذا أنتجت للمجتمع وعلى أبنائه على الصعيد الفردي والمجتمعي؟
الجواب عن هذا السؤال يبدو لي يتلخص في جانبين: الجانب الأول في عدم استغلال هذه المنصات الاجتماعية الافتراضية بما ينبغي، وإنما كانت محلًا لضياع الوقت وإهدار المال في اللهو والعبث من دون تقدير لقيمة ما يخسره، وأصبحت هذه المجالس الافتراضية بالنسبة لهم مكانًا للهرج والمرج والصراعات والخصومات والمنازعات، ما اضطر في بعض الدول فتح عيادات نفسية لمعالجة هذا النوع من المرض ومحاولة لإرجاع المصابين إلى وضعهم الطبيعي وإعادة تأهيلهم اجتماعيًّا، وأصبحوا كمرضى الإدمان على المخدرات أعاذنا وإياكم من شرها، وأولئك يسببون كلفة مادية باهضة على أصحابها وعلى الدولة، وهذا الإدمان على هذه المنصات أخذ يتفاقم شيئًا فشيئًا.
الجانب الثاني، هم من استثمر هذه الثورة الرقمية الإلكترونية الهائلة ووظفها في الجانب الإيجابي على الصعيد الشخصي والمجتمعي، ومن على هذه المنصات والتطبيقات التي أخفق فيها الجانب الأول هم برعوا فيها واستفادوا منها وفي توظيفها نحو الاتجاه الصحيح وأخذوا في تطوير ذواتهم وتطوير مجتمعاتهم.
لقد شاهدنا كيف لعبت هذه التطبيقات والمنصات الاجتماعية الافتراضية أدوارًا هامة وخاصة أمام ما واجهته من صعوبات وتحديات حياتية أثناء انتشار الجائحة التي مرت على العالم بشكل مدمر وبلا رحمة تاركة موجة شراسة قلَّ نظيرها. إنه فايروس كورونا «كوفيد - 19» وما حصل فيما بعد من متحورات فيروسية زادت من صعوبة عودة الحياة مرة أخرى إلى حالتها الطبيعية ومن أبرزها الالتقاء الاجتماعي المباشر. كانت لهذه المنصات الاجتماعية الافتراضية دور الجندي الفاعل والنشط لحماية البشر عبر تقديمها أجود الخدمات الحياتية الضرورية والمتنوعة كتسهيل إيصال الطعام والدواء والإسعافات الأولية وكل ما يلزم من أمور حياتية وفكرية كالمنصات التعليمية والحوارات الثقافية والصفقات التجارية.
وانطلاقًا من فكرة هذه المنصات الاجتماعية الافتراضية الاستهلاكية، وبالخصوص الواتساب الذي تملك عقول الغالب من الناس بشكل كامل يحتاج إلى إعادة تفكير جدي ممن يستخدمون هذه التكنولوجيا في كيفية توظيفه بشكل أكثر إيجابية بما يتناسب مع قيمة الوقت الذي نقضيه فيها، وبالخصوص من أصحاب المجموعات الكبيرة سواء كانت تخص عائلات أو مجموعات من الأصدقاء. ينبغي أن لا تقتصر الاستفادة منه في فكرة مراسلة بعضنا بعضًا سواء أكانت صورًا شخصية أو حول الطعام أو مناظر طبيعية أو أحاديث جانبية، وينبغي أن نحوِّلها إلى مجالس فاعلة ونشطة وهادفة تحمل رسالة إنسانية وذات مضامين اجتماعية سامية. قال الله تعالى «وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ» البقرة: 251.