وهم المثالية والكمال
كثيرة وكبيرة هي الأوهام والتخيلات التي قد يتبناها الإنسان في هذه الحياة المعقدة، والتي قد تؤثر بشكل مباشر أو غير مباشر على فكره وسلوكه، بل وقد تُحدد ملامح وتفاصيل شخصيته وذاته، وهم المثالية وبلوغ الكمال، أحد أهم وأخطر تلك الأوهام والمتبنيات التي تُصيب شريحة ما من البشر، وهنا لا يهم على الإطلاق حجم أو نسبة هذه الشريحة، صغيرة أم كبيرة، فهذا ”المرض الاجتماعي“ خطير ومدمر، وله امتدادات وتأثيرات خطيرة وكارثية على الفرد أو منظومة المجتمع بشكل عام.
والمقصود بهذه المصطلحات: المثالية الزائدة أو المفرطة والكمال المستحيل أو المتخيّل هو التوقعات العالية جداً التي يرسمها أو يفترضها المصاب بهذا الوهم لكل علاقاته وتعاملاته مع الأشخاص والأشياء، وحتى تقترب الصورة أكثر، أنقل لك هذه التجربة الشخصية التي عايشتها عن قرب مع أحد الأدباء المصابين بوهم المثالية والكمال المستحيل:
فقد استغرق هذه الأديب سنوات طويلة من عمره لا ينشر كتباً بسبب هذه الأوهام والتخيلات، فكان يُصاب بالهلع الشديد بمجرد أن يُقرر دفع مسودة كتاب للناشر، ويُعيد كتابة وتنقيح وحذف وإضافة وتعديل تلك المسودة، يُكرر ذلك كثيراً، وفي نهاية كل مرة، يتراجع عن نشر ذلك الكتاب. ولقد أثر ذلك التردد والخوف على شخصيته، بل وعلى كل حياته، فقد تجاوز ذلك الأديب مسألة القلق المعتاد والخوف الطبيعي الذي ينشأ نتيجة القرار الذي قد يتخذه أي كاتب، وتلك بدافع المسؤولية والرغبة بتقديم نتاج رائع، تلك مخاوف وهواجس طبيعية تحدث للكل، ولكن ما يحدث لصاحبنا تجاوز كل ذلك، وتحوّل الأمر معه لمثالية زائدة جداً، بل وإلى كمال مستحيل، فهو يُريد أن ينشر كتاباً هو أقرب للكمال المستحيل، رافعاً سقف توقعاته إلى حدود لا يمكن تخيلها، فضلاً عن الوصول لها، ولأنه لم يكن واثقاً أو ضامناً لكل توقعاته العالية جداً، لم ينشر كتبه التي تجاوزت العشرين إلا بعد أن تخلص من ذلك الوهم الكبير.
نعم، نحن نحتاج إلى الكثير من الاهتمام والعناية، بل وللقلق والخوف أيضاً، حينما نُريد أن ننجز أعمالنا أو نحقق رغباتنا، ولكن حينما يتحوّل الأمر إلى هوس ووهم، نسقط في فخ المثالية أو وهم الكمال، وهنا تقع الكارثة التي قد تُدمر حياتنا.
ببساطة شديدة، نحن بشر، نُصيب ونُخطئ، ونقوم بأعمال ناقصة أو بها هلا، تلك طبيعة البشر، والمثالية لم ولن تكون من سمات وصفات البشر.
لا يوجد ما هو أخطر على الإنسان من وهم المثالية والكمال المستحيل، فتلك أشبه بقوالب حديدية تُسيّج أفكارنا وطموحاتنا، فتُسقطنا في وهم المثالية المفرطة والكمال الكاذب، الشغف والحماس والتطلع وغيرها من الصفات الجميلة التي نحتاجها لنُحقق طموحاتنا وأحلامنا، ولكنها يجب أن تكون بعيدة عن كل تلك المعايير والتوقعات العالية التي قد تُغرقنا في بحر/ وهم المثالية والكمال.