”حُبُّ الحُسينِ أَجَنَّنِي“.. عقيدة وليس وهمًا
قال الله تعالى في كتابه الحكيم: ”إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا“. ﴿الأحزاب: 33﴾.
وعن أبي عبد الله الصادق قال: ”مَنْ أَرَادَ اللهُ به الخيرَ قَذَفَ في قلبِهِ حُبَّ الحُسينِ وحُبَّ زيارتِهِ، ومَن أَرَادَ اللهُ به السوءَ قَذَفَ في قلبِهِ بُغْضَ الحُسينِ وبُغْضَ زِيارتِهِ“. ﴿وسائل الشيعة، الحر العاملي، 14/ 496﴾.
وعن جعفر بن محمد «عليهما السلام»، قال: نظر النبي إلى الحسين بن علي «عليهما السلام» وهو مقبل، فأجلسه في حجره وقال: ”إن لقتل الحُسينِ حرارةً في قلوبِ المؤمنين لا تَبردُ أبدًا“، ثم قال : ”بأبي قتيل كلِّ عَبرة، قيل: وما قتيل كل عَبرة يا بن رسول الله؟ قال: لا يذكره مؤمنٌ إلا بَكَى“. ﴿مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، 10/ 318﴾.
من هذه الثقافة الدينية القرآنية المحمدية العلوية الحسينية المستندة إلى النصوص الكثيرة، انطلقت وترسخت المفاهيم الرسالية الإسلامية في أذهان وعقول وقلوب ونفوس المسلمين والموالين لأهل البيت بالخصوص، وهي مودة وحب أهل البيت ، وحين رسخ القرآن الكريم والسنة المطهرة قواعد مودة ومحبة رسوله الكريم محمد وأهل بيته الأطهار «صلوات الله عليهم أجمعين»، وجعلها شرطًا أساسيًّا لكمال الدين، أصبح هذا الشرط ملزمًا وامتثالًا لأمر الله سبحانه وتعالى، والمخالف له عاصٍ لأوامره «جل شأنه»، ولا يقبل من أحدٍ تجزئة دين الله، ذلك أن عبادة الله لا تصح ولا تقبل إلا بحب ومودة محمد وآله الأطهار .
وبما أننا نعيش في أيام عاشوراء حدثًا ساخنًا على الساحة الشيعية القطيفية الدينية والثقافية، باعتبار أن الحدث انطلق منها ومن أحد خطبائها ورموزها الفكرية والدينية الموقرة، في طرح سوء فهم في بعض المفاهيم المرتبطة بالشعائر الحسينية بين مفهوم التعبيرات الحقيقية، ومفهوم التعبيرات المجازية، ما أحدث هذا الخلط حراكًا فكريًّا على الصعيد الديني والثقافي، وهنا لا ينبغي علينا النظر لكل حدث على الساحة الفكرية أو الدينية أو الثقافية على أنه حدث سلبي وضار، بل ربما يولد هذا الحراك فكرًا أقوى وأفضل مما كان موجودًا في الخزانة الفكرية أو الدينية عبر التنوع في الطرح والمباحثة.
إن استخدام التعبيرات المجازية في اللغة العربية كثير، وخاصة عند الكتاب والشعراء والأدباء، والأدب العربي يزخر بألوان وأشكال من التعابير المجازية، الذي تتضمن جُمَلًا بديعة ورائعة توصل المفهوم بأجمل حلة وأبهى صورة للمتلقي.
والتعبير المجازي «كما عرَّفه أهل اللغة» هو استخدام الألفاظ في غير معانيها الحقيقية التي تدل عليها نظرا لتوافر علاقة التشبيه أو المجاز أو الكناية...، وهذا عكس التعبير الحقيقي الذي يستخدم الألفاظ بمعانيها الحقيقية المباشرة التي تدل عليها.
وتزخر آيات القرآن الكريم بالعديد من أساليب التعبير المجازي كقوله «جل شأنه»: يدُ الله فوقَ أيديهم/ واعتصموا بحبل الله/ كالحمار يحمل أسفارًا، وغيرها من الآيات الشريفة، وهذا السياق القرآني المجازي استخدم لبيان إيضاح الصورة أو الفكرة أو الحدث بصورة أعمق للمتلقي.
وعندما نرى أو نسمع أن هناك بعض الأشخاص قد أدوا فعلًا ما أو قالوا أمرًا ما في شأن شخص سواء أ كان خيرًا أم شرًّا، ووضعوا أقوالهم في جمل فيها نوع من التعابير المجازية، لا يتطابق مع الحالة الذي تم ذكرها، هذا لا يعني أنهم خرجوا عن النص أو عن الحالة الطبيعية، بل أرادوا إيضاح حجم الحدث/ الأحداث بإيقاع يتناسب مع حجم الرسالة التي يحملها الآخر، كما صنع رسول الله وهو أصدق الصادقين حين قال لعمه أبي طالب : ”يا عم! والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته“. ﴿الغدير، الشيخ الأميني، 7/ 359﴾.
وهذا التصور والفهم لا يبعد عما كان يصنعه محبو وعشاق الإمام الحسين ، فكل محب وعاشق له حرية التعبير في كيفية إيضاح هذه الأحاسيس والمشاعر القلبية الإيمانية والإنسانية تجاه من يعشقه ويوده، فلا يسيء الآخرون الظن به؛ أن سلوكهم هؤلاء لا يتوافق مع العقل أو مع الفطرة السوية، إذ يعدُّ هذا النوع من التعبير عن المشاعر «في نظر بعضهم» نوعًا من أنواع الاضطرابات النفسية أو ضربًا من الجنون، أي عدم القدرة على السيطرة على العقل، مما ينتج عنه مجموعة من السلوكيات الشاذة وغير الطبيعية.
هذا الفهم السيء والظن الخاطئ هو حالة من الازدواجية الفكرية والشخصية، لأن هذه الشخصية تقبل التعبير المجازي قولًا أو فعلًا من جهة، وتنكره من جهة أخرى! وهنا ينطبق عليه المثل الشعبي: ”حب وقول، وابغض وقول“.
علمًا أن غالب الشعائر الدينية الحسينية هي مؤطرة شرعًا ومسورة بأحكام شرعية صادرة من مراجع دين لهم وزنهم وثقلهم الديني والإسلامي والاجتماعي والعالمي، والشعائر الحسينية الدينية حكمها في الشرع الإباحة بل الاستحباب، وقد تصل إلى الوجوب، وأجرها عظيم وثوابها جزيل عند الله تعالى، ولها آثار بالغة في نفوس الناس والمحبين.
وعندما نقرأ النهضة الحسينة في الفكر الآخر عند مفكري الديانات الأخرى كالمسيحية نجد أمثال جورج جرداق، وبولس سلامة، وعبد المسيح الأنطالي، وركس زايد العزيزي، وجبران خليل جبران، وأنطوان بارا وغيرهم من الكتاب والمفكرين، هؤلاء ومن على شاكلتهم الذين يعدون من عمالقة الفكر والأدب، إذ نكتشف أنهم يتناولون النهضة الحسينية بشكل إنساني بحت، ودراسة الحركة الحسينية من كل أبعادها ويعيشونها لحظة بلحظة، إذ يُخيَّل إليك وكأنهم كانوا بالفعل مع الحدث وعاشوا كل تفاصيله في أرض كربلاء، بسبب تلك الإيقاعات الكربلائية الذي أحدثت لهم تموجًا فكريًّا نهضويًّا حسينيًّا.
وهؤلاء باحثون ومفكرون ومحايدون لم تفتهم شاردة ولا واردة إلا قاموا بتشريحها ودراستها فكريًّا، وأية عبارة قد قيلت في النهضة الحسينية وأية قرينة مرتبطة بالنهضة الحسينية، وفي أي قرن وعصر إلا درسوها وبحثوها بحثًا دقيقًا، ومنها العبارة المنسوبة لعابس «رضوان الله عليه»: ”حُبُّ الحُسينِ أَجَنَّنِي“، فكانت تأملاتهم واستيعابهم الفكري يتوافق مع الحدث النهضوي الحسيني ومع عمقه الإيماني، فلم نجد منهم إلا كل ما يتوافق مع الضمير الإنساني والعقلي والديني.
كما أن الصحافية والكاتبة البريطانية اميلي غار ثوبت التي قامت بتغطية صحافية شاملة في مناسبة يوم الأربعين عام 2018 م، ومكثت نحو أسبوعين في محافظة كربلاء المقدسة، وتابعت مراسيم إحياء المناسبة بجميع طقوسها وشعائرها الدينية من بدايتها حتى نهايتها، حتى أنها لم تتمالك مشاعرها العاطفية وأخذت تجهش بالبكاء على صاحب المصيبة وأهل بيته مِمَّا رأته من أداء تلك الشعائر، واعتبرت كل ما رأته من أتباعه قليل في شأن الإمام الحسين وما قام به من دور عظيم لأجل دينه، بل تفهمت بعمق عقلي وعاطفي كل شعيرة رأتها دون حاجة أن يُشرح لها مفاهيم ومقاصد هذه الشعائر والطقوس.
وظهرت في مؤتمر صحافي بعد عودتها إلى بلادها وشرحت ما رأته بدقة، ولها تقرير مصور يخص هذه الزيارة وهو موجود على الإنترنت، وتعجبت قائلة كيف لرجل مات قبل ألف وأربع مئة عام استطاع تجميع هذه الملايين في دفعة واحدة وفي بقعة جغرافية صغيرة.
ومما يتعجب منه أيضًا، كيف نرى الأدمغة الغربية التي نخشى منها أن تسيء الظن والفهم في ديننا وطائفتنا من بعض أداء شعائرنا الدينية أمامها أو أمام الإعلام، وإذا بها تفاجئنا من ردة فعلهم على أنها مغايرة تمامًا لما كنا نتوقعه من سوء فهم قد يحصل لديهم من وراء ما رأوا من ممارستنا لبعض شعائرنا الدينية، وإذا بهم يتأثرون ويتفهمون سريعًا ما ترمي له هذه الشعائر الدينية حتى دون حاجة لشرحها لهم.
فإحياء الشعرية الدينية الذي تزيد الإنسان ارتباطًا بربه وتعزز مكانة أوليائه وقيمه ومبادئه ينبغي التشجيع عليها، لأنها سوف تعكس واقعًا سلوكيًّا ودينيًّا وشخصيًّا واجتماعيًّا ووطنيًّا في منتهة الروعة الفكرية والسلوكية.
وعليه؛ فإن قول عابس، ينبغي أن يردد في كل قرن وفي كل عقد وفي كل عام وفي كل شهر وفي كل يوم وفي كل ساعة: ”حُبُّ الحُسينِ أَجَنَّنِي“، فهو شعار يراد منه إيضاح عظمة دين الله ومكانة وحب وعشق أبي عبدالله الحسين ونهضته المباركة في قلوب أصحاب الضمائر الحية، وعند محبيه وهم عشاق الحسين، فلا تلوموا عشاق الحسين، فهو عشق إلهي لا يفهمه ولا يشعر به إلا من عرف الحسين، ورسول الله والأئمة المعصومون «عليهم الصلاة والسلام» هم أول من مهدوا لهذا العشق الحسيني الخالد.
وفي الأخير إن اتفقنا أو اختلفنا يبقى الحسين هو الذي يجمعنا على الود والمحبة والأخوة، وكما قيل: ”الإسلام محمدي الوجود، وحسيني البقاء“.