وتمْتمتْ شفتاه «2»
خرجت زينب!
يكفي أن يُقال خرجت زينب من خبائها، حتى يُدرك حجم المصاب وعظم المصيبة.
خرجت فخر المخدرات وهي فزعة تندب شقيقها وبقية أهلها.
خرجت تخاطب القوم وتواجههم، لكن رئيس العسكر لم يمكّنها من ذلك، وأشاح بوجهه عنها. لم تعد تقوى على النظر الى أخيها وهو بتلك الحالة، فعادت الى خبائها لترعى النساء والأطفال.
خطْب فظيع أن تلجأ الحوراء زينب الى مخاطبة أعداءها، حتى الكون نفسه وبما فيه خجِل مما يدور، فكيف بحالها وهي تعيش هذا الموقف.
وخرجت زينب ثانية وقد قتل الحسين!!
حلّ السكون على أرض كربلاء الطاهرة. أسدل الليل ستاره. انتهت المعركة وقد قتل الحسين وأهله وأصحابه وباتوا جثثاً ساكنة.
أفسحت الشمس مكانها للقمر فبعث أشعته الى أرض كربلاء وقد سُقيت بدم الشهادة، وجرت على ترابها فاجعة كبرى لم يماثلها شبيه في التاريخ الإنساني.
خرجت زينب الى الميدان تخطو بوقار وهي تتنفس روح علي، سارت بين جثث مقطعة متناثرة تقودها بوصلتها نحو القربان السماوي، نحو الحسين، وسط أشواك حادة ودماء لم تجف، وسيوف وسهام مغروسة في الأجساد والرمال.
وقفت حفيدة الرسول أمام جسد تعرفه. أمام جثمان مرمّل وممزّق. جَثَتْ زينب بظهرها المنحني عند مصرع أخيها، دسّت يديها تحت ذلك الجسد المرضوض بالخيول، رفعته بيديها وكأنها تقنت، شخصت ببصرها نحو السماء وهي تدعو بحرارة قائلة:
- اللهم تقبّل منّا هذا القربان!
إنه إيمان بطلة كربلاء، إيمان تنحني له الإنسانية، إيمان هو السر في تضحية الحسين وخلوده.
إنه صبر لا يماثله صبر، وهي تتضرع الى الله أن يتقبل ذلك القربان.
صانت بمواقفها الخالدة أهداف الحسين.
أسرعت تلتقط الأطفال وتجمع العيال الذين فرّوا مذعورين في الصحراء
لم تهن ولم تستكن أمام كل تلك الأهوال. صبّرتهم وسلّتهم وسهرت على حراستهم طيلة تلك الليلة. لقد أخذ منها الأسى والألم ما لا يعلم مداه الا الله.
أمر قائد العسكر قواته بعد زوال اليوم الحادي عشر بالرحيل الى الكوفة بمن بقي من عيال الحسين، وحُمل النساء على أقتاب الجمال دون وطاء، وساقوهن منهكين كما يساق سبي الترك والروم، وكن عشرين امرأة ماعدا الصبية.
آن للقافلة أن تسير.
تحرك الركب الحزين المثقل بالآلام والمصائب، وبه نساء ثواكل وصبية صغار قد ربطوا بالحبال، وزين العابدين مقيّد الى بطن الناقة.
قلن للأعداء:
- بحق الله إلا ما مررتم بنا على مصرع الحسين.
فمروا بهن على المصارع. لما نظرت عقائل النبوة جثث القتلى بكين، وصاحت العقيلة زينب بصوت حزين وقلب كئيب:
- يا محمداه! صلّى عليك مليك السماء، هذا حسين مرمل بالدماء، مقطع الأعضاء، وبناتك سبايا. يا محمداه! هذا حسين بالعراء، محزوز الرأس من القفا.
فأبكت بكلامها العدو والصديق.
كانت سكينة تسمع عمتها تندب أباها الحسين وهي حزينة وتنوح، حتى حاذا محملها جسد أبيها فألقت بنفسها عليه، واعتنقت جثته. أخذتها حالة من الذوبان والاستغراق لم تشعر معها بمن حولها، أضحت تسمع همهمات وأصوات كأنها تنبعث من منحر والدها:
- شيعتي ما إن شربتم عذب ماء فاذكروني
- أو سمعتم بغريب أو شهيد فاندبوني
- فأنا السبط الذي من غير جرم قتلوني
- وبجرد الخيل عمداً بعد قتلي سحقوني
وسكينة ما زالت تتمسك بجسد أبيها
وايتماه في الصغر.
قال رئيسهم:
- نحّوها عن جسد أبيها.
اجتمع القوم عليها حتى جرّوها بعنف، فقامت مرعوبة ودموعها جارية قد قرحت مآقيها.
صرخت، دارت عينيها نحو أبيها وكأنها تخاطبه:
- والدي، جرني العدو من بين يديك بالقهر والاكراه. أعلم أنه رغماً عنك، فأنت حامي الحمى.
أنّت أنيناً خافتاً، ثم أكملت خطابها:
- معذور يا قرّة عيني فأنت محزوز الرأس.
استوت على ناقتها. رفعت النوق حملها. سحبت سفن الصحراء مراسيها ووجهت بوصلتها نحو المدينة المشهورة بالغدر، نحو الكوفة.