ضمير حي
«قرارها الاستثنائي، منع كارثة عظيمة»، هذا ما قاله الرئيس الأمريكي جون كينيدي عن موظفة هيئة الغذاء والدواء FDA الجديدة، فرانسيس كيلسي. على الرغم من كونها جديدة، كانت كيلسي عالمة حاصلة على درجتي البكالوريوس والماجستير في علم الأدوية، وتبعتهما بشهادة الدكتوراه في التخصص نفسه. كانت كيلسي أيضًا باحثة في قسم علم الأدوية بجامعة شيكاغو، والتي كانت تتولى الأبحاث الرائدة في علم العقاقير وسلامة الأجنة.
توظفت فرانسيس في هيئة الغذاء والدواء، وكانت توكل لها المهام التي يُعتقد أنها مجرد مراجعات سهلة كطلب من شركة العقاقير الأمريكية ميريل Merrell لبيع دواء يُدعى ثاليدوميد. كان دواء الثاليدوميد يستخدم كمهدئ للأعصاب في الكثير من البلدان لمعالجة حالات الأرق والضغوط النفسية، لكن سرعان ما أصبح يتناوله الناس لتخفيف نزلات البرد والإنفلونزا، وكذلك الغثيان الصباحي للنساء الحوامل.
بعد مراجعة فرانسيس لطلب شركة ميريل، وجدت أن المعلومات المعطاة حول الامتصاص ودرجة سمية العقار غير كافية. في ذلك الوقت كان الأطباء يعتقدون أن جدار المشيمة يعمل على حماية الأجنة من أي ضرر، بينما أظهرت بعض أبحاث فرانسيس على أجنة الحيوانات عكس ذلك، وأن العقار يستطيع اختراق المشيمة وإحداث أضرار للجنين.
لم تقم شركة ميريل بتجربة العقار على أجنة الحيوانات والإثبات الذي قدمته الشركة على أن العقار آمن كان مجرد توصيات وليس نتاج دراسات مؤكدة.
رفضت فرانسيس طلب الشركة وطلبت منهم تقديم طلب آخر مدعوم بأدلة أفضل. كانت شركة ميريل تنتظر ردًا سريعًا وإيجابيًا لتبدأ ببيع العقار في موسم العطلة تطلعًا لأرباح مالية أكثر حيث يزداد الطلب على المسكنات.
بدل تزويد فرانسيس بالمعلومات المطلوبة، حاول مديرو الشركة الضغط على فرانسيس وإزعاجها بالمكالمات والزيارات العديدة والمتكررة، وعندما لم يُجدِ ذلك نفعًا قاموا بتقديم الشكاوى عليها ونعتها بالعنيدة والمتحذلقة. كان بإمكان فرنسيس تجنب كل ذلك الإزعاج بالموافقة على الدواء، لكن ضميرها كان يقظًا. لقد دعمت FDA موظفتها وأجبرت شركة ميريل على تقديم الطلبات المتواصلة، والذين كانت فرانسيس تراجعهم وترفضهم الواحد تلو الآخر لعدم توافر الأدلة الكافية.
في ذلك الوقت، بدأت أخبار الأضرار الجانبية للدواء بالانتشار، حيث سجل الأطباء حالات من تلف الأعصاب والحقيقة المرعبة التي تم اكتشافها لاحقًا هي أن العقار الذي كان يستخدم بشكل كبير من قبل النساء الحوامل، يسبب عيوبًا خلقية شديدة للأجنة. وتوفي الكثير من الأطفال في بطون أمهاتهم، ووُلد جيل بأطراف زائدة، أو أطراف قصيرة مثل الزعانف أو حتى بدون أطراف. وتم سحب الدواء من بعض البلدان بينما استمرت شركة ميريل في محاولاتها للحصول على الموافقة الأمريكية لعدة أشهر قبل رفض طلبهم السادس والأخير.
لقد منعت فرانسيس دخول هذا العقار الخطير للأسواق الأمريكية. في نظر فرانسيس، كان ما تقوم به هو مجرد تأدية واجب، لكن الحقيقة أنها أنقذت الكثير من الأرواح، وكان لها دور كبير في تحديد وتطبيق تعديلات عام 1962م على قانون الغذاء والدواء، وبسبب ذلك تم تكريمها من قبل الرئيس الأمريكي جون كينيدي لتصبح ثاني امرأة تحصل على جائزة الرئيس للخدمة المدنية الفيدرالية المتميزة.
الضمير الحي هو ذلك النور الإلهي الذي يضيء أرواح بعض البشر وينير دربهم، وهو أيضًا ذلك الصوت الخافت الذي يدوّي أحيانًا فيقضّ مضجع الإنسان. قصة فرانسيس ليست إلا مثالًا جميلًا لذلك النور الإلهي والضمير الحي.