سجن الذات
ذلك النطاق المحدود الذي من خلاله نخوض تجاربنا ونبني تصوراتنا، هي ذلك الثقب في جدار الكون الذي نرى من خلاله كل شيء بما فيه هذه الذات نفسها التي نشكلها بأنفسنا بعد أن نضعها بالمكان الذي يفرضه علينا وعينا ضمن نسقٍ معقدٍ تتداخل فيه سياقاتٍ اجتماعية ونفسية وتاريخية، يكون لها كبير الأثر على فرض تراتبية معينه تخلق تموضعاً معيناً تنظر هذه الذات من خلاله إلى كل ما سواها في هذا العالم.
إحساس الإنسان بذاته شرط وعيه: أي لا يكون الإنسان واعياً إلا بعد أن يفهم أنه ينطلق من ذاتٍ منفصلة عن باقي الكون ينظر من خلالها إليه، هذا الفهم المضمر في كل ذاتٍ واعيةٍ به يوجب وجود فجوة لا يمكن ردمها وهي حتمية الجهل بما هو خارج نطاق هذه الذات المحدودة.
نحن محبوسون داخل ذواتٍ لا نختبر ولا نطلع على أي شيءٍ خارجها إلا من خلالها، لا نستطيع وصف أي شيء إلا عبر تجارب نخوضها بحواسنا تطبع شعوراً معيناً يشترك جميع الناس فيه بدرجة معينه فَنَسِمُهُ باسم معين حسب اللغة والثقافة المشتركة بيننا لنميزه عن غيره أكان لوناً، أو طعماً، أو صوتاً، أو رائِحة.
فهم هذه القضايا الموضوعية الحقيقية خارج الوعي الإنساني والحكم فيها أسهل نسبياً واقل تعقيداً من الأخرى الذاتية أي التي تتعلق بذات أُخرى لها محدوديتها وحيثيتها وانفعالها الخاص بها، نحن هنا نحاول الإمساك بقضية هي ذاتٍ مدركَةٍ أخرى قد لا يوجد بيننا وبينها تجارب مشتركة تؤدي إلى فهم ما يصدر عنه الآخر ما يعيدنا إلى طريقة إدراك القضايا الخارجية غير الذاتية «الأشياء» موسعين بذلك فجوة الجهل بالآخر وعدم القدرة على فهمه بسبب استعمال مقياس واحد لقضيتين مختلفتي النوع.
إن نقص التجربة هو نقص دائم في فهم الآخرين، ولا يمكن خوض كل التجارب، وليست كل التجارب قابلة للخوض، وهنا نصل إلى طريقٍ مسدود من حيث الفهم الكامل لكن لازال هناك مجال للتفهم والمقاربة.
من المتعذر فهم الآخر المنفصل عنا ذاتاً وتجربة مالم نفترض وضع أنفسنا مكانه محاولين فهم ما قد يكون عليه الامر لو كنا هناك مطلقين العنان لكل مشاعرنا لاختبار كل الاحتمالات المتاحة، وهذا ما يطلق عليه المواجدة أو التشاعر والتي هي نوع من المحاكاة بمحاولة الانسلاخ الإفتراضي عن الذات لنكون مكان الآخرين لفهم تجاربهم في سبيل تعويض وسد فجوة الجهل الناشئ عن محدودية الذات، وإن كانت افتراضيه إلا أنها تتيح مجالاً للفهم من مستوى آخر، ومن أقرب الأمثلة على ذلك علاقة الام بابنها والاخ بأخيه والصديق بصديقه وكل من له علاقة تدفعه لبذل جهد أكبر لفهمها.
ليس هذا بالأمر السهل كما قد يبدو، بل يحتاج إلى فضول دافع وخيال خصب وقلب يتسع لفهم الآخرين وعقل قادرٍ على استيعاب اختلاف وجهات النظر وتفهم الظروف إضافةً إلى مهارات الذكاء الاجتماعي
بهذه الكيفية يمكن فهم المواجدة والتشاعر ضمن سياق أناني ناظر إلى إكمال نقص الذات والحصول على المعرفة بعيداً عن مثالية التكرم والتفضل على الآخرين.