الانتقام الصحيح
النقمة هي المكافئة بالعقوبة على ما اقترفه شخص ما، والرغبةُ بالانتقام شعورٌ عارم بالغضب والرغبة في رد الظلم أو الإساءة وهذا يعني كونه انفعالاً لا فعلاً، هذا الشعور طبيعي غريزي في الإنسان له محاسنه ومساوئه، وإحدى محاسنه هي التوازن الذي يفرضه هذا الشعور على الناس تجاه بعضهم تحسباً حتى في ظل انعدام القانون، وهذا ما اشتهر عند العرب في فترة ما قبل الإسلام وسمي بالثأر، مشكلاً نوعاً من التسالم والاتفاق الضمني على عدم الاعتداء أو توازن الرعب.
أما الجانب الآخر فهو تطبيق الانتقام نفسه بصورة مبالغ فيها أو عندما يتجاوز الانتقام من المُراد الانتقام منه إلى غيره أو من المجتمع نفسه، وهذه هي الصورة النمطية الشائعة عن الانتقام التي لا تخلف ورائها إلا الكوارث والمآسي.
لا ريب أن رد الظلم وإعادة الاعتبار للمظلوم، مطلب مهم لحفظ الحقوق والسلم الاجتماعي، ولكن ماذا لو كان الانتقام من الواقع نفسه لا الفرد ولا المجتمع، فمعاقبة الجاني على جنايته «وهي مطلوبة» لا تحل المشكلة جذرياً، فالانتقام من الشخوص يبقي القضية في إطارها الشخصي ويحول الغضب إلى ضغائنٍ تَإِدُ الحل في أحقادٍ لا تنتهي.
إذاً ما هو الحل؟ عندما نعلم أن الإنسان خَيِّرٌ بطبعه وما الشَّرُّ إلا عارض عليه وليس ذاتياً به، يسهل علينا نوعاً ما تفهم الظروف التي أدت بالمعتدي إلى الاعتداء، وهذه دعوة لتأمل مدى تأثر الإنسان بالظروف المحيطة والبيئة التي نشئ بها، لا لترك الحبل على غاربه، بل لنعرف أولاً جميع الأسباب التي أدت لما حصل وعلى من يقع اللوم ومن الأجدر بالانتقام منه وأين يكون الجهد اكثر جدوى، ومن الأكثر مساهمةً في الوصول إلى هذه النتيجة، كثير من الجناة ليسوا إلا ضحايا لظروفهم ومجتمعاتهم، فيتم التغاضي عن الجريمة الأولى ويتم الحساب على الثانية فقط.
كون الشر الإنساني عرضياً لا ذاتياً يفتح أعيننا ويضع أيدينا على أماكن الخلل الحقيقية التي قد تكون فقراً أو جهلاً أو إهمالاً أو إرثاً اجتماعياً اعتدنا عليه حتى أصبحنا لا نراه أو غيرها من الأسباب الكثيرة التي من ضمنها التحولات الاجتماعية والبيئة والظروف الاجتماعية ككل.
إذا كان الفرد والمجتمع خاضعان لكل هذه التغيرات فليس من العدل أن يُدمَغ الفرد بالشر وحده، دون النظر إلى الواقع الذي قد يكون له الدور الأكبر فيما حدث والأجدر بالانتقام منه بتغييره، لكي لا يتكرر ما حدث.
عندما يصل الامر إلى ما يقوله المتنبي:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفةٍ فلعلة لا يظلمُ
فهذا يدل على تدهور الواقع بحيث أصبح الظلم هو السمة الطبيعية للناس.
وحتى العقوبات لا تعيد للمظلوم حقه، وإن أعادته فلازال الضرر قائماً بالقلب أو بضياعٍ الوقت والجهد، وكم من إساءةٍ بكلمة أو نظرةٍ ليس لها من طريق إلا التجاهل والتجاوز
وكما تقول ميسون سويدان
العدل بالأرض للأجساد منتقمٌ ويُتركُ القلب لا قانون يحمهِ
يبقى الحل الأخير وهو الانتقام من الواقع بتغييره لا الشخوص، تَفَهُّم ظروف الأفراد يؤدي إلى الارتقاء بالوعي من البيدق إلى المحرك له، ومن الشخوص إلى الأفكار التي تفرض وجودها من خلال المُتأثر بها، وهنا ننتهي من دائرة الشخوص قصيرة المدى ضعيفة الأثر إلى الأفكار ذات الدائرة الاوسع والاثر الأقوى والأبلغ.