الموضوعية بين الشرق والغرب
الموضوعية مفهومٌ يُقصد به عدم الانحياز لجانب معين أثناء البَتِّ أو الحكم في قضية معينة وهي تفترض وجود عالم أو بُعد للأفكار منفصل عن الذات المُدرِكةِ لها، لتسهل الوصول للحقيقة بعيدا عن الميول الذاتية والانحيازيات المشتتة.
تحتل مشكلة الموضوعية إحدى أهم المشاكل التي تحجب الرؤية الواضحة للذهن مشكلةً حاجزاً يمنع الوصول للنتيجة الصحيحة، فاتحةً الباب على مصراعيه للتحيزات الذاتية والعرقية والطائفية وغيرها من النزعات المكونة للهوية مشكلةً حجاباً يَصعُب كشفه لرؤية ما ورائه بوضوح..
عدم الموضوعية قد يكون على المستوى الفردي كما الجماعي، عندما يُطرح الرأي كنتيجة مسلم بها سابقةً على البحث والتمحيص، ما يؤدي بالنتيجة إلى حشد الأدلة في صالح هذا الرأي والدفاع عنه وكأنه دفاع عن الذات بعد أن امتزجت به، والحل المقترح هو طرح الرأي في سياق المقدمة بحثاً عن النتيجة المنشودة أياً كانت للوصول إليها والتحقق منها بمعزل عن الذات إذ تكون منفصلةً عنه.
طرح هذا الموضوع ليس من باب الترف الفكري بل كان ولا يزال في صميم الممارسة الفكرية الاجتماعية، نسمع صداها بشكل يومي عن الأفكار والمفاهيم الأجنبية المشوهة تشويهاً مقصوداً يراد به التعالي الذاتي النرجسي على حساب الحقيقة الموضوعية، وكمثال على ذلك مفهوم الحرية والحقوق والديموقراطية والمساواة وغيرها من المفاهيم التي يندُر أن تَسمَع من يَبْسِطُها بَسطاً واضحاً خالٍ من المغالطات المقصودة والغير مقصودة، بحيث يُذهل المرء من حجم ركام التشويه والمغالطات التي ينبغي إزالتها للوصول إلى المعنى الذي أراده واضعوا هذه المفاهيم.
الحقيقة أن هذه المشكلة ليست خاصة بحضارة أو مجتمع معين بل هي ملازمة للطبيعة البشرية، وتزداد في حالات الضعف كآلية دفاعية تُستفز عند الاقتراب من مفاهيم لها طابع المنافسة خوفاً على الهوية أو ما بقي منها، بل هي كانت في وقت ما في قلب الغرب، عندما كان يتهم من يرتاد العلوم المترجمة عن العرب بانتمائه للحضارة العربية، ولكن بعد أن تجاوزوا هذه الإشكاليات وطوروا العلوم المستوردة وأضافوا إليها وأبدعوا أصبحت تنسب لهم ويتهم مرتادها بالانتماء للغرب، وتلك الأيام نداولها بين الناس..
كان للاستعمار الأوروبي للدول العربية أكبر الأثر في رفض معظم الإنتاج الفكري الغربي لكونه مرتبطاً بالعدو التاريخي الذي احتل ونهب وقتل، لا غبار على الجرائم التي ارتكبتها الحضارة الغربية، إضافةً إلى جريمة تنفير الأمم المتضررة من النتاج الفكري لفلاسفته ومفكريه، ولا ريب في أننا نتحمل قسطاً من هذا الجرم لعدم تجاوزنا هذه العقدة التي لا تزال تؤخرنا وتثقل كاهلنا.
حقيقة سبق الغرب لبعض الأفكار الإنسانية وتقنينها والتنظير لها لا يعني انتقالها من حيز الفكر الإنساني العام إلى الغربي الخاص، بل لا تزال تلك الأفكار ضمن الملكية الإنسانية العامة، وقابلة للنقد والرفض والتبني، تبقى قيمة الأفكار في معقوليتها وقابليتها للفهم والتطبيق، لا في كونها اكتشفت أو نظر لها من قبل أي طرف، وهنا تكمن إحدى أكبر مشاكل عدم تقبل الفكري الغريب عن البيئة جملة وتفصيلاً إذ إن إحدى معانيه المصطنعة هو الانسلاخ عن الهوية والذوبان في الآخر.
قد يكون للخوف مسوغاته، ولكن عندما يكون على حساب الحقيقة الموضوعية فلن يكون الخاسر سوى من أغمض عينيه، وقد لا يدرك ذلك إلا بعد ان يصطدم بالحائط، الذي كان يوهم نفسه بعدم وجوده.