دائرة اليقين
اليقين هو نقيض الشك، واليقين بشيء أو قطع الشك باليقين في شيء هو دخوله إلى دائرة اليقينيات المقطوع بصحتها، هنا نفهم أن اليقين هو نشاط ذهني متعلق بالمدركات الإنسانية، بغض النظر عن نوع هذه المدركات وكونها صحيحة من عدمها، تشكل هذه الدائرة بما تحوية وزناً لا يستهان به في تشكيل المنظومة الفكرية، وأساساً يبنى عليه ما بعده من سلوك وتصرفات، تكون في معظم الأحيان إفرازاً مباشراً عنه، وهنا تكمن الأهمية والخطورة.
شياع استخدام الجانب الإيجابي لهذه المفردة في الأدبيات الدينية أدى لترسيخ الصورة الإيجابية المطلقة لها وتوهمها على حساب الواقع المحايد، الذي لا يمكن أن يبت فيه إلا بالنظر لما ينطوي تحته.
لا يخفى عدم وجود ميزان خارجي لقياس اليقينيات ولكنها تنتخب حسب تجارب الشخص الفردية ودائرته المعرفية، فما يكون يقينا عند فرد لا يكون بالضرورة يقيناً عند غيره، فتتسع دائرة اليقينيات وتضيق من شخص إلى آخر كما تختلف مستوياته من حيث القوة والضعف، ولكن هل اتساع هذه الدائرة وارتفاع مستوى اليقينيات داخلها من حيث القوة يدل على شيء؟
يؤكد علماء النفس التناسب الطردي بين الجهل والثقة القطعية، إذ يبدو أن الجهل يرسخ اليقين أكثر مما تفعل المعرفة، نرى ذلك واضحاً في الحركات الدينية المتطرفة والقسوة المفرطة المبنية على جزميات يقينية لا تدع مجالاً لدخول العقل ولا منفذاً للقلب، وكذلك ما نراه من تعصب وتزمت لدى القوميين والعرقيين والطائفيين وأتباع كل أديولوجيه عمياء.
كلما زاد الأطلاع قل التزمت والقطع واليقين، تسبب هذه المفارقة أحدى أكبر مشاكل الأنظمة الديمقراطية، إذ أن المرشح الذي يبدوا أكثر ثقةً هو من يستحوذ على ثقة الناس وبالتالي اصواتهم، بينما المرشح الأكثر اطلاعاً لا تظهر عليه هذه الثقة عادةً وبالتالي تقل فرصه في الفوز.
ولدائرة اليقينيات أثر ٌكبيرٌ أيضاً على المستوى الثقافي والفكري للمجتمعات، فإذا اتسعت هذه الدائرة قل الدافع للبحث والإطلاع والقراءة، فلن يزيدني الإطلاع على ما أنا موقن به إلا مضيعةً للجهد والوقت، إن البحث بعد الحصول على الحقائق الناجزة المطلقة لن يكون إلا كصب الماء في كأسٍ مليء، وهنا وهم اليقين وأصل الكسل المعرفي.
دائماً ما ينادى بأهمية القرائة وأثرها في تقدم الأمم والشعوب، وغالباً ما تكون مرفقةً بأصوات التبرم واللوم للشعوب العربية المصابة بحالة تَبَلُّد تجاه القراءة والكتاب، يبدو أن اتساع دائرة اليقينيات الناجزه والقطعيات المسلمه تعوداً وتلقيناً لا قناعة عن بحث وتمحيص يجعل القراءة ترفاً فكرياً لا حاجةً ماسة وهذا من أجلى أسباب النفور.